ليبانون ديبايت - الحلقة الخامسة من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
كنت آنذاك بوضع المأذونية وقد "عزمت" الأهل على الغداء بمناسبة عيد الميلاد، وبُسِطت المائدة، ولمّا هممنا بالجلوس إذا ب " بيك آب " عسكري يقف امام المنزل يترجّل منه أحد العسكريين، ما زلت اذكر إسمه : الرقيب "غسان ابو ضلع" فقال لي: "سيدنا بدو ياك قائد الكتيبة هلق..." ووسط ذهول الأهل والزوجة وبكائها ( كنت قد تزوّجت باكراً ) إرتديت لباسي العسكري ووضّبت حقيبتي وذهبت مع " أبو ضلع ".
في مكتب قائد الكتيبة النقيب "عمر العلي" : "في مهمة بتنفذها ؟"
أجبته على الفور: أكيد.
الا تريد أن تعرف ما هي قبل أن تجيب دون تفكير؟
- بلى لكن دعني أولاً أجهّز العسكريين لكسب الوقت.
ولما عرِف عسكريو الكتيبة أنني سأنفّذ المهمة الأولى للكتيبة المنشأة حديثاَ ( الكتيبة 94 التابعة للواء المشاة التاسع، واللتي أنهت لتوّها التدريب مع القوات الفرنسية العاملة في لبنان من ضمن القوات المتعدّدة الجنسيات : فرنسية، أميركية، بريطانية وإيطالية ) حتى رغب أكثرهم ب " الإنضمام " إلى فصيلتي..، لكن التعليمات واضحة : الملازم نادر من السرية الأولى ينفّذ بفصيلته.
قال لي قائد الكتيبة بالحرف: "على مستديرة الشفروليه ناطرك النقيب عباس هزيمة من اللواء السابع، وهوي بيقلك شو لازم تعمل". إنطلقت فصيلتي المؤلفة من ثلاث مصفّحات "بانهارد" وبلغة العسكر "بنهر" (المصفّحة الفرنسية نوع AML تصنيع شركة Panhard) وبيك آب لنقل الذخيرة،بالإضافة إلى جيب "الويللس" الخاص بي كآمر فصيلة، وجَلّ العناصر أحداث في الخدمة: رقباء تخرجوا حديثاً من مدرسة الرتباء، جنود أغرار أنهوا فترات التدريب الأساسية والنوعية وضابط تخرّج حديثاَ من المدرسة الحربية، لا خبرة له في القتال إلا ما تلقّنه في المدرسة الحربية ومع القوات الفرنسية.
إنتقلت الفصيلة في بقعة تجتاحها نيران القذائف من كل حدبِ وصوب، سيارات تحترق في الشوارع، سيارات الإسعاف التي تقلّ المصابين تسير بسرعة هائلة، ليس لإنقاذ المصاب وحسب، بل خوفاً من القذائف المدفعية المنهمرة دونما تمييز بين أهداف عسكرية والمدنيين. أرشدني النقيب هزيمة إلى منطقة في عين الرمّانة تدعى ال "مازدا " وأشار إلى مجموعة بنايات بإتجاه الشياح قائلاً : " شفت هالبنايات" إحتلها المسلحون وأنت ستعيدها، ثم عاد إلى حيث لا أدري ...
لاحقاً عرفت أن مهمتي كانت تأمين ميمنة القوى التي ستهاجم محيط كنيسة مار مخايل في الشياح حيث إحتلّ المسلحون أبنية محيطة بمراكز الجيش التي سقط بعضها بأيدي مسلحي حركة "أمل" والتنظيمات الموالية لها.
أطرقت لبرهةٍ مفكّراً، الضابط الحدث غير ذي خبرة عسكرية، جمعت الرتباء الثلاثة آمري الحضائر، وبلّغتهم المهمة، وبقينا معاً نراقب البنايات التي كلفني احتلالها النقيب هزيمة، فلاحظت أن النار تَطلق من إحداها بإتجاه الأخرى والعكس مما يدل أنه لا تزال هناك مقاومة من عناصر الجيش على الأقل في إحداها. قلت للرتيب الأعلى رتبة، وأذكر إسمه "توفيق الصرّاف": انا ذاهب لأتفقّد تلك البناية فإذا لم أعد بعد عشر دقائق على الأكثر إرمِ بالمصفّحات على الطوابق السفلى وأفِد قيادة الكتيبة لتتلقّى أوامرك منها...
إنطلقت بجيب "الويللس" برفقة عنصرين إضافة إلى السائق وبسرعة وصلت إلى مصدر إطلاق النار.
فسمعت أحد الجنود يُقنِع رفيقه بالإنسحاب بينما الآخر يرفض بعناد :
- " يلا خلينا نروح ما في حدا غيرنا ".
- "خليك هون ولاه، ما تخاف ..." أحدهم يُثبِط عزيمة الآخر بينما رفيقه يشجّعه ويتّهمه بالجبن والخوف...
صرخت بهما : "مين هون" أجاب أحدهم "الرقيب أول فلان ... معي الجندي فلان من الكتيبة "74" عرفته عن نفسي، ولما تأكّدت أنهما وحيدان في أتون النار، بعدما إستشهد من رفاقهما آمر الفصيلة وأربعة عناصر، و "إنسحب الباقون". قلت لهما أصعدا معي، وعدت مسرعاً إلى مركز فصيلتي.
أخذت هذا القرار لأنني في عتمة الليل لا أعرف المراكز العسكرية وربّما تسلل بعض المسلحين إلى البناية التي كان فيها العنصران الشجاعان. وصدق توقّعي، فلم أكد أصل إلى مركز فصيلتي حتى علت الضوضاء والصراخ بنشوة الإنتصار: دخل المسلحون البناية التي كان يتحصّن فيها الجنديان.
تمركزت المصفّحات الثلاث على صف، وراحت تطلق النار بإتجاه الطوايق السفلى في البنايات حتى وصلت إلى مداخلها وكان ما تبقى من المسلحين قد أخلوها وتمركزتُ فيها دفاعياً، وكانت الساعة بعيد منتصف الليل فإتصل بي ضابط من إحدى الوحدات المجوقلة ( لا أذكر إسم القطعة ) الذي كَلِّف إستعادة مراكز الجيش في محيط كنيسة مار مخايل، وكم حزنت عندما عرفت في اليوم التالي أن ضابطين من رفاق دورتي، "فؤاد فرحات وأحمد حيدر" من الكتيبة المجوقلة 103 على ما أظنّ قد إستشهدا في المعركة، وكانا قد مرّا بي ليلة الأمس كأنهما ذاهبان في نزهة ....( قائد الكتيبة كان آنذاك النقيب فؤاد خوري مدرّبي في المدرسة الحربية وآمر إحدى السرايا المهاجمة الملازم أول محمد فهمي).
المرحلة الأصعب في تلك الفترة كانت إنسحاب الجيش من قرى الشحّار الغربي بطريقة مذلّة، ومن ثم من بيروت المسمّاة غربية، وعادت خطوط التماس بين شرقية وغربية: في الجهة الشرقية وحدات من اللواءين التاسع والسابع وفي المقابل مسلحون من تنظيمات مختلفة، وكنت مع فصيلتي في منطقة الأسواق التجارية في بيروت.
(في الحلقة القادمة تتابعون انقسام الجيش الوطني وانهيار حلم الجيش القوي، وكيف عالج الملازم نادر هذه المعضلة لبقاء العلاقة قوية بين عناصر الفصيلة.)
العميد جورج نادر في غسطا
الملازم جورج نادر خلال فترة التدريب عام ١٩٨٤
في باحة المدرسة الحربية
الملازم جورج نادر
استراحة تدريبية مع القوات الفرنسية (١٩٨٤ ) في مرج الصنوبر بيروت
عام ١٩٨٤ في مرج الصنوبر خلال التدريب
في وطى الجوز مع فريق التدريب الفرنسي (١٩٨٤)
عناصر فصيلتي في خدمة العلم (١٩٨٣) -ـ وقت الفداء
استراحة المحارب في المازدا عين الرمانة (١٩٨٤)