ليبانون ديبايت - الحلقة الثالثة من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
المرحلة الثانوية تختلف عن سابقاتها، الثانوية تبعد أكثر من 3 كلم عن المنزل، والذهاب والإياب سيرا" هو السمة المشتركة مع المرحلة التكميلية، كذلك "الخرجية" التي لم ترتفع قيمتها مع إرتفاع المرتبة التعليمية والعمر، "والخرجية" لا تتعدّى الليرة الواحدة في أحسن الأحوال، وتمنح لمدّة أسبوعين وثلاث، وكان علي "تزبيط" المصروف بحسب قيمة ما يتيسّر من جيب الوالد الذي كان يكدح في الأرض، "ينقبها" يزرع القمح والكرمة، والخضار في الصيف "بعل" (أي بدون ري) وكان علي أن "أطلِّع خرجيتي" من بيع البندورة واللوبية "المسلّات".
لا زلت أذكر كيف كان يغريني بالعمل معه في الحقل بأن "يعطيني أربع ضروب بالجفت" على أن أنقل عدة العمل: المعول، ويسمّى "المعدور" والرفش، و"العتلة" أي المخل ..، وذلك من المنزل صعوداً حتى تلّة "الحميرة" حتى كاد "ينقطع" ضهري من الثقل والتعب .
"إزا بتنكش كل يوم ع قد المساحا اللي بتقعد عليها بتكون طلّعت يوميتك"، و"اليومية " هي إيجار عمل نهار كامل للعامل.
سألت عن قيمة ال "يومية" فكانت ليرة واحدة مبلغ حرزان كي تعب لأجل الحصول عليه، ولو " بدو ينكسر ضهري بدي طلع ليرة " . عملت في اليوم التالي بكل ما أوتيت من قوة لأنكش بحجم المساحة التي أجلس عليها، ثم طالبت والدي باليومية.
فضحك وأجاب: "بكرا بتقبضها بس تكبر."
أشكره وهو في الدنيا الآخرة على أنه زرع في نفسي محبّة الأرض وعمق الإلتزام بها وبالتالي بالأرض الأكبر: الوطن .
أذكر "نهفةً" حصلت معي في أثناء العمل مع الوالد في الأرض التي أورثني إياها مع إخوتي وأخواتي :
الألقاب تطغى على الأسماء، فهناك عائلة "الشالح" أي الراهب الذي "شلح" ثوب الرهبنة، وبيت "بو طحين" و "بو كشك" و "الصوص" و "الطير" و "الشطيط" و "الزليط" .. ألقاب نسينا أسماء أصحابها .. لكن لقب جارنا في "حفّة الخيمة" يختلف عن كل الألقاب الدارجة في القرية، إنه يلقّب بكل بساطة ...... : "الضبع ."
نفذت أوراق السجائر مع والدي الذي يدخّن "عربي لفّ" فناداني: "روح لعند الضبع وقلّو يعطيك ورقتين سيجارا."
"الضبع" الجار رجل طويل القامة، أسمر الجبهة، يده غليظة بحجم وجهي بالكامل، يحمل المعول في يده كأنّه "قضبونة" أي قضيب صغير .
- "عمّو الضبع بيقلك بيي ت تبعتلو ورقتين سيجارا."
- "يلعن أبوك عكروت، أبن مين أنت ولاه."
لما رجعت بالورقتين، وكنت أرتجف كالورقة خوفاً من "الضبع."
لاحظ والدي خوفي : "عيّط عليي وكان بدّو يضربني ."
- لماذا ؟ فأخبرته ما قلت للجار اللطيف، فصرخ الوالد : "يا عيب الشوم عليك كيف بتقلّو الضبع، ما اسمو طنّوس ساسين."
في الثانوية الأحزاب اللبنانية راحت تجتذب الشباب: الكتائب اللبنانية، الوطنيون الأحرار، الشيوعي، القومي .. لكن وصيّة الوالد، وأوامر الأخ الأكبر "عبدالله" الذي يخدم في قوى الأمن الداخلي واضحة: "شو بدك بالأحزاب دروس وتعلّم هيدا اللي بينفعك" وهكذا كان: درست وتعلّمت وإنتفعت.
الذهاب إلى الثانوية في "الهواء الشرقي" كان أشبه بعقوبةٍ فُرِضت علينا بدون أن نعرف ما هي المخالفة: هواء قارس يهبّ في شهري كانون الأول والثاني بقوّة وسرعة حتى كان يدفعنا تراجعاً مع أننا كنّا نلبس الكوفية الفلسطينية "الشملة" التي تلفّ الرأس والعنق والأكتاف ولا يبقى إلا الأعين للنظر.
إتفقنا يوماً "بوطة الزعران" أن نأتي إلى المدرسة على ظهور الحمير التي ندُر وجودها، فرُبِطت الحمير الستة مكان سيارت الأساتذة في المواقف المخصّصة لها، فلنتصوّر غضب ألأساتذة الذين فوجئوا بالحمير تحتلّ مواقف سياراتهم .. والنتيجة: طرد "مجموعة المشاغبين لمدّة يومين ليتعلّمو التهذيب وإحترام الأساتذة."
في نهاية المرحلة الثانوية، إندلعت الحرب المسمّاة أهلية ( 1975- 1976)، وتقطّعت أوصال الوطن وكانت أخبار القتل والتهجير تحتلّ المساحات الإعلامية اليومية للتلفزيون والراديو (لم يكن من قنوات تلفزيونية آنذاك إلا تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان من بيروت) . "قِسمة الجيش" كانت الضربة القاضية، الأمهات تنتظرن أخبار أولادهن وأزواجهن العسكريين المنتشرين في وحدات وثكنات لا يمكن الإتصال بها، فلا هاتف، ولا كهرباء، والذهاب خارج البلدة ضرب من الجنون. أحد عشر عسكرياً من ابناء البلدة خُطِفوا وقُتِلوا وهم في طريقهم إلى ذويهم. الرجال والنساء يتسمّرون أمام الراديو لتنسّم أخبار "الشباب" والإطمئنان على أن اسماءهم لم تُذكر في عداد الضحايا.
هُجِّرت قرية "بيت ملات" العكارية، ثم "دير جنين" ف "تل عبّاس" و "رحبة" و "منجز" .. وكنا نسمع أخبار القتل وتشريد الأهالي وتدمير البيوت وسرقة محتوياتها وحرقها، وإتلاف الحقول والمزروعات. وننتظر أن "يأتي دورنا" . نُظِّمت أعمال الدفاع عن بلدتي القبيات وعندقت من قبل العسكريين المتقاعدين وبعض الذين في الخدمة الفعلية، فإنتظم الشباب ضمن مجموعات قتالية يرأس كل منها رتيب متقاعد ذو خبرة عسكرية، فكان يمارس الإمرة كما لو أنه في الخدمة الفعلية وكنّا نطيع، لعلمنا أن هؤلاء العسكريين ملمّين بالأمور العملانية ويدركون ما يفعلون، فكيف إذا كانوا بعمر الوالد، عندها يقتضي رفع مستوى الطاعة "العسكرية" إلى مستوى الإحترام للكبار الذي تربينا عليه منذ الصِغر.
كنت يافعاً ومتحمّساً للدفاع عن بلدتي، أقاتل مع "الشباب" على تخوم القرية مسلّحين من تنظيمات وأحزاب مختلفة بالإضافة إلى ما سُمِّي آنذاك ب "جيش لبنان العربي"، لحوالي الثمانية أشهر من الحصار المحكم والقتال شبه اليومي، وصمدت البلدتان بالرغم من الشحّ في الذخائر .. وفي المواد الغذائية، ولولا "المونة" وحسن التدبير لدى النساء المناضلات لمات بعضنا جوعاً او خوفاً من الجوع ..
صمدت البلدتان حتى دخول ما سُمِّي آنذاك ب " قوات الردع العربية " في شهر حزيران من العام 1976 .
نجحت في شهادة البكالوريا القسم الثاني وبدأ حلم ال Mon Lieutenant والمغوار الذي لا يموت ...
(ترقبوا في الحلقة الرابعة الدخول الى المدرسة الحربية ...التحديات، والهواجس، والمخاطر، والوضع الامني العام الذي كان يتخبط به الوطن)
ابن العشرون عاما يستعد لدخول المدرسة الحربية
العميد الركن جورج نادر قائدا للفوج المجوقل
والد العميد نادر
والدة العميد نادر
الارض التي طالما حرثها واهتم بها الى جانب والده
المدرسة الثنوية التي تخرج منها