ليبانون ديبايت - الحلقة الحادية عشر من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
في حرب التحرير، ثمّة عمليات بطولية نفّذتها وحدات من القوات الخاصة في الجيش (السرية الثالثة من فوج المغاوير بإمرة النقيب جورج شريم):
معركة 13 آب 1989، إحتلّ مسلّحو ميليشيا "الحزب التقدّمي الإشتراكي" مدعومين بوحدات من جيش الإحتلال السوري بعض مراكز الجيش في سوق الغرب، وذلك بعد قصفٍ عنيف ليومين متتالين على كامل البقعة التي يسيطر عليها الجيش وطرق التموين والإمداد ووزارة الدفاع، وتركّزت الرمايات على مراكز الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش.
فوج المغاوير الذي هو إحتياط القيادة يتألف من ثلاث سرايا مشاة وسريتي مدرعات وسرية دعم، يتمركز في معسكر أدما بشكل دائم سرية مشاة وسرية مدرعات، ويبقى في الثكنة ومحيطها سريتا مشاة وسرية مدرعات وسرية دعم، وبما أن الفوج هو إحتياط القيادة كانت تستنفر بشكل دائم سرية مشاة حيث السلاح والذخيرة والعتاد الفردي بشكل دائم في الملالات، وعناصر السرية وضباطها يلازمون الثكنة طيلة فترة جهوزها.
تحت الغطاء المدفعي الكثيف والمباشر على مراكز الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش، وعلى طول طرق الإمداد، وعلى يومين متتاليين، هاجمت وحدات جيش الإحتلال السوري مع ميليشيا الحزب الإشتراكي مراكز الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش ونجحت بإحتلال مركزين للواء العاشر في سوق الغرب، وكلّف فوج المغاوير بإستعادة المراكز الساقطة.
إستدعى النقيب مارون حتي رئيس الفرع الثالث في الفوج (العمليات والتدريب) النقيب جورج شريم آمر السرية الثالثة، مع أنه لم يكن دور سريته في الجهوز اليومي:
- "بتروح ع سوق الغرب"
- "جاهز"....أجاب شريم بدون تردّد
إنطلق النقيب شريم إختيارياً، وبجرأته المعهودة ووصل أرض المعركة تحت وابل من القذائف التي دمّرت له إحدى الآليات في أثناء الإنتقال، وإستعادت سريته مركزين سقطا للجيش في سوق الغرب، وذلك بإحتراف وشجاعة، فسقط له في تلك المعركة شهيدان: منير مساعد والياس القزّي، بالإضافة إلى عدة جرحى.
عمليات أخرى نوعية نُفّذت "خلف خطوط العدو" اي في المناطق التي تخضع لجيش الإحتلال السوري، في بيروت و"قرطاضة" و "الزندوقة " ومناطق أخرى في الشمال، فكانت مجموعات صغرى من القوة الضاربة في الجيش بإمرة النقيب انطوان ابي سمرا ومن السرية الثانية في الفوج (التي كان يأمرها الملازم أول شامل روكز) تتسلل إلى مناطق سيطرة جيش الإحتلال السوري، تنفّذ عمليات خاطفة، ثم تعود وتلتحق بقيادتها، بعد تحقيق إصابات في صفوف جنود الإحتلال وفي سلاحهم وعتادهم.
في بداية شهر آب (السادس منه) إستُشهِد شقيقي الأصغر "جوزيف" وكان "متطوعاً إختيارياً" (كانت قيادة الجيش قد أعلنت عن التطوع الإختياري دون مقابل للمدنيين الذين يرغبون القتال إلى جانب وحدات الجيش) لكن إستشهاده لم يكن في خلال إشتباك مع جنود الإحتلال، بل بشظايا قذائف المدفعية التي كانت تطلقها المدفعية السورية بشكل دائم على المناطق "الشرقية". وكان في طريق عودته ليلاً في محلّة نهر الموت حيث سقطت "هطلة" صاروخية فأصيب بشظية صغيرة في رأسه لم يلبث أن فارق الحياة على أثرها في مستشفى الأرز.
كان قد سبقه وفاة والدي في 12 كانون الثاني من العام 1985، ووالدتي في 23 حزيرن من العاام 1988. وكان خبر إستشهاده علي كوقع الصاعقة، ليس فقط لأنني سحبت الجثمان من برّاد مستشفى الأرز في الزلقا، بل لأنني لم أتمكّن من حضور مراسم جنازته في بلدتي الخاضعة آنذاك، كما بقية مناطق الشمال، لسلطة الإحتلال السوري، حيث أن قرى عكّار كانت تعاني أكثر في ظل الإحتلال.
فعكّار خزّان الجيش الذي لا ينضب، رجالها شجعان، فتيانها أقسموا الولاء للوطن وجيشه، فكانت قوافل الشهداء "تتبهدل" على الحواجز السورية: أحياناً كثيرة يفتحون النعوش، حتى تلك المقفلة باحكام لاسباب طبية وصحية نظرا لتشوه الجثامن التي تحتويها.. فهل يمكن تصوّر شعور الأهالي الذين ينقلون جثامين ابنائهم، وهم يرون أمامهم من "يسخر" من شهادتهم "ويبهدلهم" كأن يفتحوا النعوش للتأكّد من هوية الميت وذلك بإحتقار وسخرية؟ أو كأن يرموا بعض النعوش أرضاً، وينتشلون منها الجثامين الطاهرة؟ هل يمكن تصوّر إنعدام الإنسانية والأخلاق إلى هذا الحد؟
عند وصول جثمان شقيقي الشهيد إلى ما قبل حاجز "المدفون" السوري، هممت بمتابعة المسير مع الموكب، إلا أن الإعتراض العنيف جاء من صديقي بسام أوقفني ومسدّسه في يده:
"والله العظيم بقتلك هون ولا بخلّيك تروح ويقتلوك هنّي يا مجنون..."
وبعد ستّة أشهر، وخلال حرب "الإلغاء" لم أتمكّن من حضور جنازة "الأخ" الآخر بسام الذي سار موكب جنازته عبر البقاع، وعلى حواجز جيش الإحتلال نفسه، لأنه كان وللأسف، أسلم من المرور على حاجز "القوات" في البربارة.
ودُفِن "الشقيق" الآخر في "تل عبّاس"، وهكذا كان قدري أن أدفن شقيقِ ولدته أمي، وبعد أشهر شقيقاً ولدته الحياة العسكرية، مع إبني أختي الذين سقطا مع بسام في معركة "أدما".
أكمل موكب الجنازة الطريق التي إستغرقت أربع ساعات للوصول إلى القبيات بعد التفتيشات الدقيقة على كل حواجز جيش الإحتلال والأسئلة المتكرّرة عن هوية الميت إذا كان عسكرياً أم لا....، وقفلتٌ راجعا إلى رومية.
إجتماع " نواب الأمّة " في مدينة " الطائف " السعودية، وتعديلهم الدستور وإنتخاب رئيس للجمهورية (الرئيس رينه معوض) ومن ثم حلّ مجلس النواب من قبل الحكومة العسكرية، زاد الوضعَ تعقيدا.
حكومة تعتبر مجلس النواب منحلّاً وغير شرعي، وفي المقابل أخرى تعتبره العكس واصفة الاولى (الحكومة العسكرية) "بمغتصبة السلطة"، فيما سفراء الدول الكبرى يقدّمون أوراق إعتمادهم إلى الرئيس المنتخب، نازعين الشرعية عن حكومة العماد عون العسكرية، وبالتالي عزلها سياسياَ ودولياً.
ومما رفع منة منسوب التوتّر، إعتراف ميليشيا القوات اللبنانية بشرعية الرئيس "الياس الهراوي" الذي إنتُخب خلفاً للرئيس معوض الذي أغتيل في 22 تشرين الثاني من العام 1989 قبل إلقائه "خطاب القسم" وإستلام سدّة الحكم. إعتراف وضع ميليشيا القوات اللبنانية في مواجهة مباشرة مع الجيش.
لا زلت أذكر زيارة السفير الأميركي "جون مكارثي" إلى الرئيس معوض وتصريحه الشهير بعد الإعتراف "بشرعية الرئيس المنتخب" قائلاً بما معناه: "إني أتعجّب من سكوت القوات اللبنانية عن الوضع غير الدستوري الشاذ" وكأنّ به يحرّض علناً ميليشيا القوات على قتال الجيش اللبناني و "إحلال الشرعية" المتمثلة بحكومة الرئيس معوض في المناطق المسمّاة شرقية، لتسلك تلك المناطق "برعاية" أميركية درب الانتحار المجنون.. قتال الاخوة وأهل البيت الواحد، في كل مدينة وقرية وحي وشارع.. قتال لا تزال آثاره المادية والمعنوية ماثلة حتى اليوم، في كل بيت وكلّ عائلة وحي وقرية. في كل شارع ومدينة يتناقل السكان أخبار تلك المعارك الشرسة التي أودت بحياة الآلاف وشرّدت وهجّرت مئات الالاف ودمّرت القرى والأحياء السكنية بالإضافة إلى الشرخ المعنوي الهائل الذي لا يزال بعض المخلصين حتى اليوم، يداوون مفاعيله وآثاره التدميرية.
(في الحلقة المقبلة اندلاع حرب الالغاء ومعركة ادما والمغوار هو اول من يموت)
العقيد جورج نادر في فوج المغاوير
النقيب مارون حتي والنقيب جورج شريم
النقيب جورج شريم متوسطاً عناصر من فوج المغاوير
الشهداء: الرقيب منير مساعد والرقيب الياس القزي
العميد جورج شريم والعميد مارون حتي
الشهيد بسام جرجي
من اليمين: العميد شامل روكز، العميد جورج نادر، العميد جورج شريم والعميد مارون حتي
الشهيد جوزيف نادر
الرقيب الشهيد دوري رزق(من اليمين) وشقيقه الرقيب الشهيد بسام رزق