ليبانون ديبايت - الحلقة التاسعة من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
المعركة الأخرى التي حصلت، وإستُعيدت فيها معنويات الفوج: 27 ايلول العام 1986.
بعد توقيع ما سُمّي بالإتفاق الثلاثي وإبعاد إيلي حبيقة مع مقاتليه إلى خارج المنطقة " الشرقية "، أعاد تنظيم ميليشياته والتي أطلق عليها أسم " القوات اللبنانية " كونه كان مقتنعاً أنه القائد الشرعي لميليشيا القوات التي " إغتصبها " منه سمير جعجع. تركّزت مجموعاته في مدينة زحلة البقاعية حيث حشد عدداً لا بأس به من المقاتلين الناقمين والحاقدين على قيادة سمير جعجع للقوات.
إجتازت مجموعات " القوات اللبنانية " التابعة ل " إيلي حبيقة " خطوط التماس في بيروت وتغلغلت في الأشرفية بنية إستعادة السلطة على ميليشيا القوات بقيادة سمير جعجع.
كنت آنذاك بوضع النقاهة المنزلية بسبب سقوطي عن حبل ال "Poulie - البكرة" في البحر في اثناء تنفيذ تمارين في دورة مغوار، وقد كُسر أربعة اضلع وصرت اتنفّس بصعوبة بالغة مع ألم شديد لا يزول إلا مع الوقت لأنه "ما بينعمل شي لكسر الضلع" كما قال الطبيب.
إتصلت مصادفةً بالهاتف بالثكنة وعرفت أن سرايا الفوج ستتدخّل في بيروت، قُدت السيارة بصعوبة حتى الثكنة، ملأت إحدى آليات "البيك آب" بذخيرة المصفّحات، وإتجهت برفقة السائق بإتجاه بيروت.
لحسن الحظ، الآلية العسكرية لا تحمل شعار الفوج، أوقفني حاجز مسلّح عناصره ملثّمون، عند المطاحن في بيروت:
"لوين رايح ؟"
ع اللواء التاسع هون ع البور " ( المرفأ )
"روح"
وعرفت لاحقاً أن عناصر الحاجز تابعين ل إيلي حبيقة، الذين كنت ذاهباً لقتالهم.
بسرعة قياسية تمكن فوج المغاوير بإستعادة المراكز وإقفال خطوط التماس من بيت "الكتائب " في " الصيفي " وحتى " السوديكو " دون خسائر في الأرواح إلا بعض الجروح الطفيفة، لأنه بالحقيقة، كنا نضع دائماً نصب أعيننا معركة الدوّار لتلافي الأخطاء والخسائر، فكان قتال الثنائي مشاة - مدرعات بإحتراف وتأنّ، يجنّب الوحدات الخسائر التي ينتج أغلبها من التهوّر أو الحماس الفائق دونما حسبان قوة العدو.
العملية التي نفّذها الفوج بسرعة وإحتراف ودون خسائر في الأرواح، دفعت بقائد الجيش العماد ميشال عون ورئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميل إلى زيارة وحدات الفوج في أدما حيث كانت تنفّذ دورة المغاوير الحادية عشرة، وتناولا الغداء مع ضبّاط الفوج وإعتمرا "القلنسوة" ( البيريه ) الخاصة بالفوج، وذلك تقديراً لجهود الفوج وبراعته وسرعة تنفيذه الأوامر وإحترافه في القتال.
النصر دون شهداء، فيه مقدار كبير من الغبطة والفخر والإعتزاز، لكن الحزن على فقدان الرفاق، لا يمحيه مرور الزمن ولا كل الإنتصارات. عند بداية كل معركة كان يقال لنا، أو كنّا نحلّل الوضع حسبما نراه: "هيدي آخر معركي، بكرا بتزبط"
فكان السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي دائماً:
" أليس لهذا النفق الطويل من نهاية؟ ومتى تنتهي الحرب في هذا الوطن الصغير؟
"كيف رح يزبط هالبلد" ويسيطر على أرضه أربع إحتلالات: العدو الإسرائيلي، الجيش السوري، المنظّمات الفلسطينية، والميليشيات اللبنانية الطائفية التي يتوزّع ولاؤها بين الإحتلالات الثلاث، وتنفذ اوامر أسيادها الخارجيين؟
"كيف رح يزبط هالبلد" وكل شيء فيه "مُطيّف، وممذهب" نفكّر طائفياً، نتصرف طائفياً، ونتنفّس طائفياً؟
"كيف بدو يزبط هالجيش" وبعض ألويته لا يأتمر بقيادته بل تنفّذ أوامر زعماء الطوائف والميليشيات؟
"كيف بدو يزبط هالجيش" والسلطة الحاكمة "تتناتش" وحداته وألويته وولاء ضبّاطه؟
أسئلة كانت تراود ذهني دائماً، وأفكر بها بصوت عال، أناقشها مع رفاق السلاح الذين لا يقلّون حماسة وإندفاعاً عني، ونتيجة كل نقاش كانت:
"شو بدنا فيهن، نحنا منعمل واجباتنا، وما منتطلّع بغيرنا" وهكذا كنا كالحصان في مضمار السباق، لا يرى إلا الطريق أمامه وأمامه فقط.
الأعوام 1987 و1988 لم تحملا شيئاً جديداً، إلا أن العام 1987 كان عام الفقر بإمتياز: الدولار الأميركي تخطّى عتبة الخمسين ليرة، إذ كانت قيمته لا تتعدّى الأربع ليرات، والرواتب هي ذاتها،الليرة تفقد القوّة الشرائية والعسكريون بالكاد تكفي رواتبهم لإطعام عائلاتهم، فكيف باللباس والتعليم والإستشفاء؟ كنا "نسمح" للعسكريين خلافاً للقانون بالعمل في أوقات المأذونيات لسدّ الحاجات الملحّة لهم، حتى كمية الطعام المحضّر في المطابخ العسكرية شحّت والنوعية تراجعت. كنا بعد تنفيذ الرياضة الصباحية، يحاول كل منا الإستحمام بسرعة للذهاب إلى "الترويقة" كي يصل قبل رفيقه إلى نادي ضباط الفوج، ليأكل "بيضة" زيادة عن حصّته التي هي بيضة واحدة مسلوقة أو مقلية. المحظوظ الذي كان يحصل على بيضة الآخر.
من المسيء ان نقارن الجيش بالميليشيات، لكن من ناحية توافر الأموال اللازمة والدعم اللوجستي لا بأس بذكر بعض الروايات التي إن دلّت فهي ترسم صورة الوضع اللوجستي السيء للجيش وإحجام السلطة السياسية عن توفير أدنى مقوّمات الحياة الكريمة لعناصره والحدّ الأدنى من المال لصيانة العتاد والسلاح الموجود، على قِدمه.
الضابط الآلوي في الفوج، أي الذي يعنى بإصلاح آليات الفوج كافة وتأمين قطع الغيار لها. كان يقوم بالوظيفة آنذاك الملازم طوني لحّود، أخبرنا يوماً أنه قصد تاجر قطع غيار الآليات العسكرية لتحقيق بعض حاجات الفوج، وصار يفاضل على السعر و "يكاسره".
"ولو هيدي ألنا ما بتعمل سعر للجيش وبدل خمس قطع عطيني قطعتين وبعدين بشوف.. ألخ."
في أثناء "المشارعة" وصل أحد "ضباط" ميليشيا القوات اللبنانية، طلب من التاجر اضعاف ما طلب الملازم لحّود من قطع غيار أصلية للآليات العسكرية في الميليشيا، ثم سأل عن مجموع المتوجّب عليه، ودون أي نقاش أو مفاضلة، وقع شيكاً بالمبلغ المطلوب وذهب.
فإلتفت التاجر إلى الضابط: "هيك بيصير التعامل، لكن متلكن أنتو؟"
كم كانت هذه الأخبار تحزّ في النفس، ميليشيات "ما بتعوز شي وجيش بيعوز كل شي."
جمع قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون قادة الوحدات الكبرى، ووصف الوضع المادّي المذري للجيش، وأن مجلس النواب الذي سيلتئم في اليوم التالي، لن يوافق على زيادة ميزانية الجيش، إذ أن التكلفة اللوجستية للعنصر الواحد، من لباس وطعام هي تسع ليرات يومياً عندما كان سعر صرف الدولار ثلاث ليرات ونصف، وبعدما تخطّى سعر الصرف الخمسين ليرة، بقيت التكلفة ذاتها. يا لهذه الطبقة السياسية الفاسدة التي تحكّمت بأوصال الوطن منذ عقود ولم تزل حتى الآن.
على جهاز "الموتورولا" أخذ المبادرة المقدّم جهاد شاهين قائد الفوج:
" اللي بيعرف وين في نواب بيروح وبيقول للنايب بالحرف الواحد: "بكرا في جلسة مجلس نواب، إذا ما بتمضي ع ميزانية الجيش بدنا..."
تكلمنا بلهجة قاسية مع النواب وحملناهم مسؤولية عدم التوقيع. والمبادرة كانت عفوية ونتيجة ردة فعل لمطلب معيشي محق دون اوامر من قائد الجيش ميشال عون.
كان النقيب مارون حتي رئيس فرع الاستعلام واللوجستي والنقيب انطوان ابي سمرا رئيس فرع العمليات. انطلقوا مع آمري السرايا الملازمون الأول: جوزف عون، جورج شريم، بسام جرجي، شامل روكز، سامي حويك، غازي خوري وانا.
وهكذا كان: لم " يزمط " نائب يقطن في " الشرقية " من تهديد وتحميله مسؤولية عدم التوقيع ما لم يوافق على رفع ميزانية الجيش.
في اليوم التالي، ذهبنا، آمرو السرايا في الفوج، كل مع بعض المرافقين إلى محيط مجلس النواب "للتذكير" بالواجبات الوطنية فقط، وخلال الجلسة وافق النواب على رفع الميزانية المخّصصة للجيش، وكانوا يتهامسون وهم يشيرون إلينا: "أنا هيدا اللي هددني".
.. لا " أنا هيداك "
" أنت شو قالولك؟"
في نهاية الجلسة، وبعد الموافقة على رفع ميزانية الجيش، وأمام وسائل الإعلام، راح النواب يتبارون في الدفاع عن حقوق الجيش ويفاخرون بأنهم رفعوا ميزانيته، متناسين الذي حصل "قبل بيوم".
في اليوم التالي استدعانا قائد الجيش ميشال عون وذهبنا كلنا حوالي ٣٠ ضابطا وكان عنده بعض النواب وقام بتأنيبنا امامهم بسبب الطريقة المستعملة لاستعادة حقوقنا. وعندما خرج النواب من منزله قام بتهنئتنا وقال: "هذه هي الطريقة المشرفة لاستعادة حقوقنا المهدورة."
أرغب في سرد حادثةٍ جرت في الرابع من ايار العام 1988، يراها البعض غريبةً وصعبة التصديق، وذلك للدلالة على أن التنسيق والإتفاق كان قائماً، بين الميليشيات التي "تقاتل" بعضها البعض، على تقاسم الحصص حتى في عزّ الحرب ( ولا تزال حتى اليوم ).
أحد العسكريين من سريتي، جندي غرّ يدعى "عصام سلمان" من زحلة، عند مروره عائداً من مأذونيته، بحاجز ميليشيا القوات اللبنانية في منطقة الدلب قرب بكفيا، أهانه عناصر الحاجز ورموا بطاقته العسكرية أرضاً عندما عرفوا أنه من فوج المغاوير.
- "طلاع ضبّ الحاجز كلو وجيبن لهون" أمر المقدّم جهاد شاهين قائد الفوج.
نُفِّذ الأمر، ولما هممت مع عناصر المداهمة بالرجوع، إذا بأحد سائقي الشاحنات يقف على الحاجز، فأشرت له بإكمال طريقه.
-"بدي أدفع الماليي" أي يريد أن يدفع الرسوم ( الخوّة ) المفروضة على الشاحنات المحمّلة القادمة من "خارج الشرقية ".
-"كفي طريقك ما بقا في دفع ".
-"لا.. لا قرطت الدروز بدّي أدفع ل جماعتنا "
هكذا، فسائق الشاحنة مسيحي من زحلة، إكتنف حاجز ميليشيا الحزب الإشتراكي فخوراً مسروراً لأنه يريد أن يدفع الخوّة للميليشيا المسيحية وليس للدرزية، فلو دفع لميليشيا الإشتراكي وإستحصل على الإيصال لكان أُعفِي من الدفع لميليشيا القوات، وإذا أكمل الطريق إلى "الغربية" عليه إبراز الإيصال المدفوع إما للإشتراكي وإما للقوات، وإلا فسيدفع التسعيرة ذاتها لميليشيا "حركة أمل ".
هل تصدّقون هذه "الخبرية"؟ أذكر من العناصر الذين كانوا ضمن المجموعة المنفّذة كل من: جوزيف سركيس وغسان الراعي وجوني عبدو، وآخرون لا تحضرني أسماؤهم.كما كان من قيادة الفوج النقيب أنطوان أبي سمرا.
تعطّل إنتحاب رئيس الجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميل الذي إنتهت ولايته في 22 ايلول من العام 1988، فشُكِّلت حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، وإبتدأت مرحلة جديدة من الحروب: "حرب التحرير" في العام 1989، وحرب "الإلغاء" في العام 1990، لتنتهي بإجتياح جيش الإحتلال السوري للمناطق الحرّة في 13 تشرين من العام 1990.
(في الحلقة القادمة انقسام الجيش وانقطاع اوصال الوطن وملاحقة العسكر وخطفهم.)
الملازم آول جورج نادر في ساحة الشرف في فوج المغاوير
قائد الجيش العماد ميشال عون ورئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميل مع عناصر فوج المغاوير
دورة المغاوير التاسعة
دورة المغاوير ١١
من اليمين الى اليسار: النقيب انطوان ابي سمرا، النقيب مارون حتي، الملازم اول فادي داوود، الملازم اول جوزف عون والملازم اول سامي حويك.
النقيب مارون حتي