"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

بَديءَ بَدءٍ. لبنانُ في الوادي الأعمَق. وأنتَ على حافّة الفوهَة حَدِّق. يَكادُ الوَطَنُ لا يَكونُ مَرئياً. دَولَتُنا في أزمَةٍ أكثرُ غَوراً مِن وادِي كولورادو. عالِقونَ نحنُ مَع بَلَدِنا في قَعرِ وادِي " الوَيل " مِن أعمالِ جهنّم عَلى ما أفادَني بِهِ لغَةً وَكِنيَةً وتَعريفاً الوَقورُ مَعالي الأستاذ جان عبَيد في مَعرِضِ نِقاشِنا عَن مَوارِدِ الضّادِ وشَواردِها.

يَتملَّكُني أحياناً شعورٌ بالتحفّظِ عَن إشاعَةِ التشاؤُمِ في وصفِ ما آلَت إليه أحوالُنا. لا أحبُّ البومَةَ حينَما تَكتب. نَعيقُها يَكفي. ولَكِن ما الحيلَةُ إذا كانَتِ الكِتابَةُ في واقِعِ الحال قَدَراً على الكتّابِ أن يَجتَرِحوه كلَّ يَوم ؟. لا يهمُّ أن تَكونَ الكِتابَةُ بِطعمِ الفَراوِلَةِ والتينِ أو بنَكهةِ الخَروَعِ والحنظَل. المهِمّ أن تحرسَ الكَلِمةُ هيكَل الحَقائِق وتستَفِزَّ السّيفَ إذا كانَ أصدَقَ إنباءً. الحَرَسُ السويسريُّ في الكِتابَة ليسَ سِوى جيشٍ من المرتَزَقَة. لا يُفيدُ ولا يُغني.

وبَعد، نحنُ عَلى ما أسلَفتُ في قعرِ " وادي الوَيل ". قَطَعنا الشّوطَ الأوَّل بِشِعاراتٍ فيها مِن الصّبابَةِ ما يُسكِرُ. إسقاطُ الحكومَةُ فهَوَت. ثمَّ حلمٌ تِكنوقراطيٌّ وانتخاباتٌ مبكِرَةٌ و" ريتز " لبنانيٌّ كدنا نَصطَفي لَه فندقاً فاخِراً في بيروت. مَطالِب إصلاحيَّة حَمَلها شبابُنا في الطّرقات عَلى مَدى أيامٍ قارَبَتِ الأسابيَعَ الثلاثَة. تسمّرنا خَلالَها عَلى مَوجاتِ البثِّ التّلفَزيّ نُضاجِعُ حلمَ الدولَةِ المُرتَجاة. فترَةٌ بَدت فيها السّلطَة مستَبِدَّةً وكأنها قرأت بِنَهَمٍ في كتابِ" طبائِع الإستِبداد وَمصارِع الإستِعباد " لعبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي وحَفِظَت كلَّ الموبِقات التي عدّدها هذا الكاتِب الذي يُعَدُّ أحد روّاد النّهضَة العربيَّة في القَرن التاسِع عَشَر. حلمٌ ظنّناهُ ألزَمُ مِن زِرِّ لِعروَة. تبيَنَ أنّه أغَرُّ مِن سَراب وأضيَعُ مِن سِراجٍ في شَمس.

تأهّلنا منذ يَومَين للشوطِ الثاني. تغيّرَتِ الشِّعارات. حفّزَتها هَفواتٌ ولّاديَّة في إعلامِ الدّولَة. بِتنا نَصحو عَلى " تَغيير النّظام" و " إسقاطِ الرّئيس " و " ما بدّنا جيش بلبنان إلا الجَيش اللبناني ". حَسناً. إنّما يافِطات مضرّجَة بالشّهداء. ثلاثَة حتّى الآن. بالطّبع لَم يَحِن بَعد موعِد إطلاق أول بَرنامَج إذاعي تحت عنوان " أَمِّن طَريقَك ". عندما يتزوّدُ المَزيدُ من الشبّان بالأسلِحَة الفرديَّة والخَفيفَة والمتوسِّطَة سيكون بالإمكان إطلاقُ هكذا بَرنامَج. سنعودُ عِندَها بالذّاكِرَة إلى المَرحوم شَريف الأخَوي. سيصبِح لَدينا " شرفاء " عِدَّة في وسائِل الإعلام تفيدنا كيفَ نَتفادَى القَتلَ عَلى الهويَّة والإفلاتَ مِن أيِّ " سبت أسوَد " محتَمَل.

لا أحد يعلَم كَم سَيدومُ الشوطُ الثاني ولكنه سيَكون الأكثَر دمويَة. استَكمَلنا كلّ المؤهلات الضروريَّة لاكتسابِ خبرات قَطع الطرقات وإطلاقِ النار ورَفعِ الدّشَم والمتاريس. البقيَّة تأتي مثل شربَةِ ماء. ثورَة انتَهَت في غضونِ عشرين يَوم. كلّ الأيام الإضافيَّة بعدِ هذه الحَقبَة الوَجيزَة تُسمّى حَرباً.

لا أحَد يستَطيع توقّع مدّة هذا الشّوط إنما لا يُتَوَقّعُ أن يَكونَ وَجيزاً. لا يمكنُ الإنتقال إلى الشّوط الأخير مِن دون كميَّة مِن الجَثامين كافِيَة لِرَفع العلَمِ الأبيَض. بَعدَها سيستعِدُّ اللاعِبون لدخول شَوط مؤتمرِ التأسيس. كالمعتاد سيكون المسيحيّون بِنزين الثورَة، وقود الحَرب وضَحايا المؤتَمَر. حماقات تتناسَخ وتُعيدُ الكَرَّة مِن دون إستِخلاص العِبَر. ما يعيقُ التعلّم مِن الماضي هوَ الكَراسي. السّلطَة والجَبَروت أكبَر قاتِلَين مأجورَين في تاريخ المسيحيين المُعاصِر. سيأتيهِم المؤتمر التأسيسي عَلى شَكلٍ مُثلَّث. سَتُبرَزُ لَهم وثائِق تُفيد أنّهم أقل من الثّلث في العَدَد وجنسٌ " عاطِلٌ " عَن العَمَل الوَطَني. بَنوا لأنفُسِهِم قصوراً مِن وَرَق وأحزاباً أشبَه بإسطَبلات للخيول. حتّى ذلك الحين نصلّي خاشِعين حتّى تَقصُرَ المدَّة ولا تتكاثَر الجَثامين.