Beirut
16°
|
Homepage
هذا انا جورج نادر.. 13 تشرين اليوم الاسود ولهؤلاء أدين بحياتي - الحلقة السادسة عشر
المصدر: ليبانون ديبايت | الاربعاء 09 آذار 2016 - 23:58

ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة عشر من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر

عند عودتي في الطريق الداخلية لبرمانا، وبوصولي إلى قرب مدرسة"ال هاي سكول"سقطت قذيفتا مدفعية من عيار 130 ملم بالوقت ذاته، إنّها"هطلة"بالمعنى العسكري التقني، واحدة أمام جيب"الويللس"بمترين والأخرى وراءه على المسافة ذاتها.

إستُشهِد على الفور الرقيب"هاني عبدو"بشظية كبيرة إخترقت جبينه والعريف"جوزيف جريج" بشظية في رأسه بين عينيه، وأذكر أنني سمعته يصرخ: "يا عدرا.." ووقع من فوق راسي إلى الأرض، واصيب الرقيب أول غسان الراعي بجروح بليغة لكن غير قاتلة.


نظرت، فإذا يدي اليسرى شبه مقطوعة عند المعصم"ومعلّقا بشقفة جلدة"، ولا اشعر بها إطلاقاً، واليد اليمنى عند الزند مهشّمة ولم أكن أدرك أن وجهي وفكّي الأيمن ورقبتي من الأمام والخلف قد اصيبت بالشظايا، كذلك راسي واسفل الظهر.

خلال ثوانِ معدودات، شعرت بإحساسِ غريب:

"هل هكذا أحسّ شقيقي جوزيف قبل موته عندما اصيب، أو هل هذا هو إحساس بسام جرجي في دقائقه الأخيرة؟". مرّت مراحل حياتي في ذاكرتي بسرعة هائلة وادركت حينها انني مائت لا محالة، فهل هكذا يكون الموت، و "ليش بعدني واقف وعم فكر؟".

عرفت لاحقاً من سكان المحلّة، أن مواطناً من آل سرور إستشهد أيضاً، وهو صادف مروره في المكان لحظة سقوط القذيفتين، وكان أصمّاً لم يسمع أصوات القذائف ليختبىء لسوء حظّه.

إلى مستشفى "ضهر الباشق" الحكومي أقلني المعاون أول "عبدو بو جرجس" من السرية الثالثة والذي كان يمرّ مصادفةً في المكان بسيارته الخاصة والتي كانت لا تتسع لأكثر من راكب واحد بسبب العتاد الذي كان يحمّله فيها مرسلاً من آمر سريته النقيب جورج شريم، عندما رآه الرقيب أول غسان الراعي:

"خود الكابتن مخطر، أنا بعيش، بس الشباب ماتوا"

الدمار الهائل والحجارة والردم على الطرقات ألزمت "أبو جرجس" بالترجّل لمرّات عدة من سيارته وإزالة العوائق من طريقه حتى وصل بعد عناءِ إلى المستشفى: حاول الأطباء "تقطيب" الجروح في يدي اليسرى بدون تخدير ( بنج ) لوقف النزف، القذائف تتساقط في محيط المستشفى والأطبّاء تارة يتركونني خوفاً، وطوراً يعودون بدافع الضمير المهني لمحاولة إنقاذي.

"يا حرام ع شبابك" صرخت إحدى الراهبات في المستشفى وعرفت أن جثة الرقيب هاني عبدو المهشّم الراس وصلت إلى المستشفى حيث وُضِعت في الغرفة التي أُعالج فيها وأدركت أنه إذا غبت عن الوعي فسيتركونني مع القتلى، لذلك حاولت جاهداً ألا أغمض عيناي وكنت دائماً اتكلم مع الأطباء والممرضين والراهبات لألفت إنتباههم، النزيف من الجروح الكثيرة لم يتوقّف.

• "لو كلن تركوك أنا ما بتركك" قالتها الأخت "ماري روز" من راهبات المستشفى.

وصل النقيب "مارون حتي" رئيس الفرع الثالث في الفوج ( ضابط العمليات ) ترافقه ملالة "مليانة عسكر" فئات دمهم مماثلة لفئة دمي ( A+) فكانت دماء هؤلاء العسكريين تجري في عروقي دون فحصها لضيق المجال، لتعوّض عن النقص في كمية الدم في عروقي (22 وحدة دم).

"خدوني ع أبوجودة"، عندما أدركت أن العلاج في "ضهر الباشق" مستحيل لضعف الإمكانات والتجهيزات الطبية، وتواضع الطاقم الطبّي.

"هيدا رقم"جورج كتانة "خليه يبعتلي Ambulance تا تاخدني ع أبو جودة"

عند وصول سيارة الإسعاف ودخول المسعفين، سقطت قذيفة في باحة المستشفى فا "إنفخت دولابين" إستُبدِلا بدواليب سيارة فيات.

• "يلا بنّجو خلينا نعملو عمليي بركي بيبقى طيّب"، قالها الطبيب في غرفة عمليات مستشفى ابو جوده في جل الديب، وعلى وجهه علامات الهلع ظاناً أني غائب عن الوعي.
• "ما بخليك تبنّجني إزا ما بتجيب الدخيري" ( ذخيرة عود الصليب التي كنت أعلقها دائماً برقبتي وكنت على إيمانِ تام بانني لن اموت طالما هي بحوزتي ).
• "بلا دخيري بلا بلّوط خلينا نبلّش".
• ما بخلّيك تبنّجني قبل ما تجيب الدخيري.

فتّش الطبيب عن الدخيرة فوجدها في سلّة المهملات مع ثيابي المشبعة بالدم:
• "وين بدّك علّقها ؟" قالها بسخرية كون يديّ ورقبتي مهشّمة.
• "علقا بأجري" وهكذا كان.
• "أنت شو اسمك "قلتها للطبيب الجرّاح.
• "روبير جبيقة"
• يلا بنّج وأشتغل اجت إيامكن". إشارة إلى الوزير إيلي حبيقة الذي دخلت مجموعاته إلى"المناطق الشرقية".

أسبوعان في المستشفى وستة أسابيع في المنزل، الفم مقفلَ تماماً، اليدان "مجفصنتان" ومربوطتان إلى الأكتاف، الألم العميق يلازمني ليل نهار (لا يزال حتى الآن ولو بوتيرة أخفّ). لا بد لي من شكر هذا الطاقم الطبي الشريف: الدكتور الصديق "روبير حبيقة"، والدكتور "إيلي عبد الحق"، وطاقم التمريض، بالأخصّ في غرفة العناية الفائقة الممرّضة ليلى، أجهل إسم عائلتها، بالإضافة إلى العسكريين الأوفياء الذين لم يتركوني لمدّة اشهر عدّة، حيث كانوا مع زوجتي التي أشكرها بمقدار شكري لهم، يقومون على خدمتي وأنا مقفل الفم، يداي مربوطتان لا استطيع الحراك ولا الكلام، وهم: ميلاد ابو رجيلي، برق ابو رجيلي، جوني عبدو، جوزيف تقلا، طوني عيسى، والمتطوّع الإختياري مارون ابو كسم.

للأمانة التاريخية وإنصافاً لضابط شهم (وغيره كثر من اللذين أُجبِروا على قتال رفاقهم) لا بد لي من أن اروي ما حدث صبيحة 13 تشرين الأول 1990:

خلال تقدّم قوات الإحتلال السوري على محور راس المتن – بعبدات، كانت كمائن "الأنصار" على طول المحور ترصد التقدّم:
• "دبابات لبنانيي ونمرتها لبنانيي ( الرقيمة ) وعليها العلم اللبناني"
• أوعا حدا يقوّص عليها، هكذا كانت أوامرنا لعناصر الكمين، فكانت النار بإتجاه الآليات السورية فقط ولم تُطلق رصاصة واحدة بإتجاه آليات الجيش اللبناني، التي "أُجبرت" على التقدّم أمام وحدات جيش الإحتلال السوري.

وصلت الكتيبة 11 من لواء المشاة الأول إلى مشارف بعبدات دون مصروف ذخيرة، أي أنها لم تطلق النار ولو طلقة واحدة بإتجاه مراكز سرية المغاوير الأولى، ترجّل قائد الكتيبة الرائد "أحمد مشيك" رافعاً يديه: "شباب أنا الرائد أحمد مشيك من اللواء الأول نحنا أخوة السلاح ما حدا يقوّص"، فإستقبله ضباط السرية الأولى من فوج المغاوير وتعانقوا، نادى الرائد مشيك على جهاز "الموتورولا" قائد فوج المغاوير المقدم جهاد شاهين:"سيدي أنا الرائد مشيك أنا والشباب بأمرك."

هكذا تصرّف الضباط الشرفاء فخر الجيش ومثال المناقبية العسكرية.

لكن وللأسف هل تصرف جميع الضباط الذين "قمعوا التمرّد" بهذه المناقبية؟ بالطبع لا. قصص وأخبار كثيرة يرويها ضباط وعناصر المدرسة الحربية ومقر عام الجيش ووحدات القتال التي قاومت جيش الإحتلال في بيروت وسوق الغرب والدوار وضهر الوحش، عن ممارسات اقل ما يقال فيها أنها ميليشياوية، قام بها ضباط بقيادة العماد لحود ( ولو لم يكن قد أعطى أوامره بذلك، لكنني متأكّد أنها كانت أوامر قوات الإحتلال) من "وضع اليد" على سلاح وآليات وتجهيزات، وإهانة رفاق السلاح وشتمهم وما إلى هناك من تصرفات لا تليق بالبزّة العسكرية. وبعض هؤلاء تبوّأ مناصب مهمة في هيكلية القيادة خلال فترة الإحتلال السوري، التي دُرج على تسميتها بـ "الوصاية" للتعمية عن حقيقة هذه الإحتلال، وللدلالة على قصور الشعب اللبناني وحاجته إلى "أوصياء" على حياته السياسية والعسكرية.

وفاءً لدماء الشهداء، وجهد الرفاق الذين قاتلوا بشرف جحافل تفوقهم باضعاف عددا وعتاداً، أرى من المفيد أن أذكر مجازر قوات الإحتلال بحقّ عناصر اللواء العاشر في ضهر الوحش واللواء التاسع في الحدث، والإعدامات الميدانية بحق العسكريين، والإعتداءت على المدنيين العزّل ومصادرة الممتلكات، أعمال تنمّ عن "أخلاق" جيش الإحتلال وتقاليده العسكرية.

تحيّة إجلال لأرواح المقدم"جورج زعرب"والرائد"البير طنوس"والضباط الذين إختطفوا إلى معتقلات المزّة السورية ولا تزال أخبارهم"مقطوعة"ولا من يطالب بمعرفة المصير.

(في الحلقة القادمة الوطن بكامله تحت الاحتلال)
النقيب جورج نادر
النقيب نادر خلال اصابته مع ابنه لبنان
الرقيب الشهيد هاني عبدو
العريف الشهيد جوزف جريج
المقدم الشهيد جورج زعرب والرائد الشهيد البير طنوس
الجيش السوري في باحة قصر بعبدا في ١٣ تشرين الاول ١٩٩٠
الجيش السوري في باحة قصر بعبدا في ١٣ تشرين الاول ١٩٩٠
الجيش السوري في باحة قصر بعبدا في ١٣ تشرين الاول ١٩٩٠
تابعوا آخر أخبار "ليبانون ديبايت" عبر Google News، اضغط هنا
الاكثر قراءة
"رسالة واضحة" من الإمارات لنتنياهو 9 ضرب وتخدير قبل الإغتصاب.. تفاصيل تروى للمرة الأولى عن "مشاهير تيك توك" 5 مشهد مخيف في جونية و"الضحية" تنتقم بعد سنوات… جولة ميدانية تكشف التفاصيل! 1
في إطار التدابير الأمنية... "الجيش" يوقف 30 شخصًا! 10 26 متورطاً حتى الآن... خيوط قضية عصابة الـ"تيكتوكرز" تُكشّف! 6 تهديدٌ بالقتل في عرمون… والهدف "بيروتي" 2
مولوي يتلقى النصائح 11 رسالة "غير مباشرة" للسعودية من خامنئي 7 الساحل اللبناني على موعد طوفان جديد... إنتظروا أحد القيامة! 3
"الأمن" يكشف تفاصيل توقيف عصابة "ابتزاز واعتداءات جنسيّة" على قٌصَّر 12 براً وجواً... الجيش الإسرائيلي تحت أنظار ونيران حزب الله (فيديو) 8 "كان عرسه اليوم"... تفاصيل "موجعة" لـ كارثة انفجار مطعم في بيروت و"تسجيل صوتي خطير"! 4
حمل تطبيق الهاتف المحمول النشرة الإلكترونيّة تواصلوا معنا عبر