"ليبانون ديبايت"- عبدالله قمح
ينكبُّ الرئيس المكلّف سعد الحريري منذ أيام على إنهاء تشكيلته الحكومية لإعلانها في مهلة أقصاها –وفق اعتقاده- نهاية الاسبوع الجاري وهو من أجل تحقيق هذه الغاية، يعتصم بحبل الصمت ويُجنّد كل طاقاته وطاقات القريب والبعيد، ولو كان ذلك "بالتدفيش والتنازلات".
كل هم رئيس تيّار المستقبل هذه الأيام أن يعود إلى السراي الحكومي متأبطاً شعار "الإصلاح والإنقاذ وكبح الانهيار وترشيد الليرة وإعادة إعمار بيروت". في الطريق إلى ذلك، تراه مستعد أن يُراضي العاصمة الفرنسية صاحبة مبادرة العودة بتشكيلة "كيفما كان" تُعيد ماء وجه رئيسها السياسي وتنقذ مبادرتها من الغرق، في وقتٍ تُعد باريس بأمس الحاجة إلى خدمة من بلد ذات غالبية مسلمة للتكفير عن ذنبها في التطاول على نبي المسلمين محمد.
يحدث ذلك فيما الحريري يتجاهل كل الأجواء المتشنجة الناتجة عن "تحقير" فرنسا ورئيسها لمعتقدات المسلمين، ويمضي قدماً في مغازلة باريس وإستنزاف كل طاقته ومكتسباته وصورته السياسية في سبيل الوصول إلى توليفة حكومية ترضي فرنسا ضمن مهلة قصيرة سبق له وان وضعَ الاليزيه في صورتها.
هذه الصورة لم تهبط بسلام على دار الفتوى خاصةً وهي تراقب "بيّ السنة" يجنحُ صوب ترفيع الاعتبارات الفرنسية على تلك اللبنانية. بالنسبة إليها ما عادت القضية بعد "تحقير صورة الرسول" من قبل الرئيس الفرنسي سياسية بإمتياز، هذا التعديل يجرّ تعديلات حكماً وله انعكاساته على الشارع الاسلامي، في بيروت كما غيرها، لا سيما بعد ملاحظة انقلاب مزاجه من مرحّب بالزيارتَين الرئاسيتَين الفرنسيتَين السابقتَين إلى ناقم منهما كنتيجة لتصريحات إيمانويل ماكرون.
ليس سراً أن التأييد الذي منحته دار الفتوى لسعد الحريري غير مطلق وتحكمه عدة إعتبارات. "الدار" تفصل بين ما هو سياسي وغير سياسي. تغطي مهمة تشكيل الحكومة بوصفه عملاً سياسياً لكن تغطيتها ليست عامة ومطلقة التصرف. فالتغطية السياسية شيء والتغطية العامة شيء آخر مختلف كلياً. والتغطية السياسية متوفرة ما دام الرجل يمثّل الغالبية النيابية السنية وصاحب حق في إشغال الموقع السني الأول في الدولة. لكن هذه القاعدة لا تسري على منحه التغطية المذهبية في الامور الاخرى، بل ان الدار تعترض في كثيرٍ من المواقع على بعض سلوكيات الحريري.
من جملة الاعتراض، عدم اكتراث رئيس تيار المستقبل بـ"عامة قومه" والابتعاد عن متابعة شؤونهم، بالاضافة إلى المآخذ الكثيرة المترتبة عن تجاهل الزعامة الحريرية لحقوق كثر من أبناء الطائفة من الذين طردوا من نعيم "المؤسسات الزرقاء"، رغم زعم الحريري في آخر ظهور إعلامي أنه أنفقَ ثروته على أبناء جلدته! هذا كله أضيف إليه استياء "الدار" من اغداق الحريري وأوساطه المستمر، "الغزل السياسي" حيال المبادرة الفرنسية، وربط مصيره السياسي بها، وصولاً إلى حد التلويح بإعتزاله في حال لم يجرِ تطبيق بنود المبادرة!
ما زاد الطين بلة، ان "تدليع" الحريري لصديقه ماكرون، تزامن وقضية "تحقير فرنسا" لصورة النبي محمد، من دون أن يبدي أي إهتمام يذكر، وقد انسحب هذا الاستياء كذلك لدى عدم إصداره أي بيان إستنكار يعبر فيه عن رفضه للاهانة الفرنسية كما فعل مثلاً رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، بل أن الحريري، ووفق أوساط إسلامية، بدا أنه وقع أسير مفاضلة بين الحفاظ على علاقته مع باريس وديمومة مبادرتها السياسية وبين توجيه الانتقاد إليها، فركن إلى الاولى غير مبالٍ بمشاعر جماعته، وجلّ ما تفاعل معه بعد ملاحظته أن سيل الاعتراضات تعاظم بحقه، تعامله بإيجابية مع النصائح التي أسديت إليه في التخفيف من الغزل بالمبادرة الفرنسية على الملأ.
بالاضافة إلى ذلك، تتهم الاوساط الاسلامية الحريري بأنه تعامل مع قضية "تحقير الرسول" على أساس أنها مسألة فرنسية داخلية لا علاقة له كمسلم لبناني بها، وإستمرّ على سجيته في إعتبار نفسه معزول تماماً عما جرى، فاصلاً بين الموقف السياسي والمبادرة الفرنسية –على ما ظهر- من دون اتخاذ أي موقف إعتراضي حتى ولو من قبيل الحفاظ على ماء الوجه، وهذا الفعل لا يمكن قياسه "إسلامياً" إلا في إطار خشية الحريري من إزعاج باريس التي باتت تمثّل بالنسبة إليه الحليف الخارجي الاستراتيجي الوحيد.
وللحريري سابقة في "تغنيج" العلاقة مع فرنسا على ما عداها حتى ولو طالت الأمور مسائل دينية حساسة. فقبل سنوات تضامنت جريدة المستقبل مع مجلة "شارلي إيبدو" عبر مانشيت صفحتها الاولى مع العلم أن المجلة الفرنسية المثيرة للجدل، سبق لها وأن هتكت حرمة نبي المليار والنصف مليار مسلم!
في المقابل، يُظهر النشاط السياسي الفرنسي في بيروت، أن باريس خرجت من معادلة "حكومة إختصاصيين" لقاء القبول بـ"أي حكومة" شرط أن تضمن فيها التماهي مع الحد الادنى من المبادرة الفرنسية في شقها السياسي، لذا لم تكن باريس عقبة أمام الحريري في تسويق "تشكيل حكومة من اختصاصيين تسميهم الأحزاب". مرد إنقلاب التوجهات الفرنسية يعود الى حرص باريس على إستخدام أي نجاح سياسي في لبنان، بوصفه بلاداً ذو غالبية مسلمة، لتسويقه في مجال إعادة الاعتبار إلى صورتها وإظهارها أنها "جهة معتدلة" وإن ما جاء على لسان رئيسها لا يغدو أكثر من شأن داخلي فرنسي اخطأ توقيته وتوصيفه!
اخترنا لكم



