يصطف حسن لساعات طويلة أمام عربة لتوزيع مياه الشرب في مخيم الشاطئ غرب غزة، أملًا في الحصول على غالون من الماء الصالح للشرب، إذ تعصف أزمة شحّ المياه النظيفة في عموم قطاع غزة المحاصر، على وقع أزمة جوع غير مسبوقة أيضًا.
ورغم ساعات الانتظار غير المحدودة التي يقضيها حسن، إلا أن حصوله على حصة قليلة من المياه ليس مضمونًا، بالنظر إلى حجم الاحتياج الهائل للمياه النظيفة في المخيم المكتظ بأهله وبالنازحين إليه.
يقول حسن، الفتى الذي لم يتجاوز عمره الـ14 عامًا، إنه يراقب يوميًا مجيء سيارة المياه "المفلترة" من الشارع المليء بالدمار والذي يؤدي إلى بيته، علّه يراها قادمة من بعيد، لكن الأمل يتبدد مع حلول ساعات المساء، حيث تقلّ الحركة، ويلتزم الجميع بيته أو خيمته، خشية تعرّضه للقصف أو الاستهداف من قبل قوات إسرائيل التي لا تغادر الأجواء.
يشرح حسن في حديث الى "عربي21" قائلًا: "كانت سيارات توزيع المياه تدور باستمرار في الشوارع لتزويد الناس باحتياجاتهم اليومية، لا أزمة ولا طوابير طويلة، تستطيع أن تحصل على غالون من المياه (حوالي 20 لترًا) بسهولة، ولكن منذ استئناف العدوان، ووقف عمل المعابر (آذار)، وما نتج عنه من شحّ في الوقود اللازم لتحريك هذه السيارات، وتشغيل محطات تكرير المياه، بدأت أزمة العطش في مخيمنا، وأصبح الحصول على شربة ماء نظيفة أمرًا صعبًا".
ويتابع: "تأتي سيارات المياه كل يومين أو ثلاثة إلى منطقتنا، لكن ما تحمله قليل جدًا بالنسبة لاحتياجات الناس من الماء. أصطف في طابور طويل، أعطي الأولوية للنساء والعجائز في التعبئة، وفي كثير من الأحيان أعود بخفّي حنين، ولهذا تضطر عائلتي أحيانًا لشرب مياه غير نظيفة، قد تتسبب لنا في مشاكل صحية، كونها تحتوي على نسب عالية جدًا من الأملاح والشوائب".
لم يكن الوضع أفضل حالًا عند أمير، الذي يسكن في خيمة وسط مخيم جباليا، فالحصول هناك على المياه النظيفة أيضًا درب من الرفاهية الزائدة في الكثير من الأحيان.
يقول أمير لـ"عربي21"، إنه يضطر لقطع مسافات طويلة يوميًا للحصول على عبوة من المياه النظيفة، إذ لا تتمكن سيارات توزيع المياه من الدخول إلى منطقتهم المدمرة كليًا، بسبب الركام والدمار الذي يملأ المنطقة والشوارع، ويحول دون تحرك أي مركبات أو عربات.
يضيف: "في بعض الأحيان توزع المياه مجانًا عبر الجمعيات والمبادرات الخيرية، وأحيانًا تُباع بمبالغ كبيرة بالنسبة لنا، فللحصول على غالون قد تضطر إلى دفع 5 شواكل (الدولار يساوي 3.6 شيكل)، وهذا مبلغ يزيد 5 أضعاف عن سعره قبل الحرب".
لا يتوقف مسلسل أزمة المياه عند هذا الحد، بل إن قوات إسرائيل تستهدف محطات التحلية التي تنتج المياه النظيفة، في محاولة لتعميق أزمة العطش في قطاع غزة.
ففي حي التفاح شرق غزة، دمّر قصف إسرائيلي قبل أيام محطة "غباين"، المنشأة الحيوية التي تمدّ الآلاف من سكان شمال قطاع غزة بالمياه النظيفة الصالحة للشرب، وتنتج نحو 20 كوبًا من المياه في الساعة، في حلقة جديدة من حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على البنية التحتية في القطاع منذ 18 شهرًا.
يأتي هذا القصف ضمن سياسة ممنهجة اتبعتها إسرائيل منذ بداية الحرب، حيث استهدفت بشكل متعمد آبار المياه والبنى التحتية المرتبطة بها، ما أدى إلى انقطاع إمدادات المياه التي كانت تصل إلى غزة عبر الخطوط الإسرائيلية.
وفي آذار الماضي، قطعت حكومة إسرائيل الكهرباء المحدودة الواصلة إلى محطة تحلية المياه الرئيسية وسط قطاع غزة، فيما توقفت بعدها بأيام ثاني أكبر محطة في القطاع بسبب نفاد كميات الوقود، حيث تغلق إسرائيل المعابر منذ مطلع الشهر نفسه، إمعانًا في إبادة السكان، ما خلق أزمة عطش وجوع طاحنتين.
وضاعفت حكومة إسرائيل معاناة سكان مدينة غزة، بعد أن أوقفت مؤخرًا المياه الواصلة من شركة "ميكروت"، والتي تمثّل 70% من إجمالي الإمدادات المتوفرة فيها، وسط تحذيرات من أزمة عطش كبيرة بين النازحين الذين يعانون أوضاعًا معيشية صعبة.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن قوات إسرائيل دمّرت 719 بئرًا للمياه وأخرجتها عن الخدمة في مختلف مناطق قطاع غزة منذ بدء الحرب في السابع من تشرين الأول 2023.
وتصف بلدية غزة الواقع المائي في القطاع بأنه "كارثي"، مشيرةً إلى أن العدوان تسبّب في استهداف أكثر من 40 بئر مياه رئيسي منذ بدايته، ما أدى إلى انخفاض حاد في كميات المياه المتوفرة.
وأوضحت أن توقف خط مياه "ميكروت" الإسرائيلي عن الضخ فاقم من الأزمة، وتسبب في عجز تجاوز الـ70% من احتياجات مدينة غزة من المياه، مشيرةً إلى أن هذا الخط يُعد حاليًا المصدر الرئيسي للمياه في القطاع.
وأضافت البلدية أن إسرائيل دمّرت أكثر من 64 بئر مياه خلال الحرب، وما يزيد على 110 آلاف متر طولي من شبكات المياه، ما فاقم من الأوضاع المعيشية بشكل خطير.
وأشارت إلى أن أزمة المياه تتزامن مع تفاقم الجوع والحصار، فضلًا عن التدهور الصحي والبيئي الناتج عن تكدّس النفايات وتسرب مياه الصرف الصحي، ما يشكّل تهديدًا مباشرًا على حياة السكان، خصوصًا في ظل غياب المياه الصالحة للتعقيم والنظافة وطهي الطعام.