بدأت بوادر نزاع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام تأخذ منحىً تصاعدياً، يهدّد بالتحوّل إلى أزمة حكم شاملة لن تقتصر تداعياتها على مجلس الوزراء، بل ستكون أكثر تعقيداً وأوسع نطاقاً. المشكلة لا تكمن فقط في التباين حول تفسير الصلاحيات، بل في إنكار البعض أصلاً لوجود أزمة، بينما تتّجه الأمور نحو مواجهة حتمية بين رئيسٍ يسعى إلى إعادة إنتاج دور رئيس الجمهورية كما كان قبل الطائف، ورئيس حكومة يحاول التمسك بما تبقى من صلاحيات موقعه.
حين وصل جوزاف عون إلى قصر بعبدا، لم يكن القاضي نواف سلام خياره الأول لرئاسة الحكومة، بل كان قد أبرم تفاهماً غير معلن مع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي لتشكيل أولى حكومات عهده، مستنداً إلى تجربة تعاون مشجّعة بينهما حين كان عون قائداً للجيش، حيث أبدى ميقاتي مرونة كبيرة تجاهه، متجاوزاً مطبات كثيرة لصالحه. لكن التدخلات الخارجية، لا سيّما من الولايات المتحدة والسعودية، قلبت المشهد وجاءت بسلام إلى السراي الحكومي، ما عزّز لدى عون رغبةً في توسيع هامش سيطرته على الحكم، تماماً كما فعل عندما كان قائداً للجيش، حيث فرض نفسه كمرجعية مطلقة داخل المؤسسة العسكرية، متجاوزاً أربعة وزراء دفاع، بل وحتى رئيس الجمهورية آنذاك ميشال عون. بعد أسابيع قليلة على تشكيل الحكومة، ظهر الخلاف الأول بين عون وسلام حول مكان انعقاد جلسات مجلس الوزراء، إلى جانب انزعاج الرئيس من بعض تصريحات رئيس الحكومة ومواقفه.
أراد سلام، بمشورة من فريق عمله، إيجاد مساحة لنفسه داخل معادلة الحكم، فتقدم باقتراح نقل جلسات مجلس الوزراء من قصر بعبدا إلى مقرّ خاص ودائم في بيروت، وفقاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف، وهو ما فُهم على أنه محاولة لترسيخ استقلالية رئاسة الحكومة. لكن عون رأى في هذا الطرح انتقاصاً من دوره الرئاسي، خاصة أنه يسعى إلى ممارسة الحكم بصلاحيات ما قبل الطائف، لا بعده، مستنداً إلى الدعم المطلق الذي ناله من واشنطن والرياض، اللتين دفعتا بقوة لفرضه رئيساً للجمهورية. لذا، رفض عون أي تنازل لصالح رئيس الحكومة، وأصرّ على أن تبقى الجلسات، ولا سيّما تلك المتعلقة بالقرارات المهمة مثل التعيينات، في قصر بعبدا وتحت إشرافه المباشر. لم يكن هذا مجرد خلاف بروتوكولي على المقرّ، بل كان أول اختبار فعلي لموازين القوى.
وفي النهاية، استطاع فريق عون إجهاض مسعى سلام لنقل الجلسات إلى مقرّ دائم، ما أدى إلى خسارة رئيس الحكومة لهذه الجولة، لكن ذلك فتح الباب أمام تحوّل التنازل إلى نمط متكرّر، حيث بدأ الرئيس يفرض هيمنته تدريجياً على ملفات الحكومة، خاصة في جدول أعمال مجلس الوزراء، حيث بات لفريقه الكلمة العليا في تحديد البنود الأساسية. يدرك عون أن من يريد أن يحكم، عليه السيطرة على ثلاثة مفاتيح رئيسية: الأمن، القضاء، والمال. ومن هذا المنطلق، فرض خياراته في تعيين قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وضمن لنفسه النفوذ المطلق على المجلس العسكري، ثم فرض مرشحه لحاكمية مصرف لبنان، ونجح في ذلك، ما جعله يمسك بمفاصل القرار المالي، وهذا البند يُمثّل النقطة التي فاضت بها الكأس مع رئاسة الحكومة. وهو اليوم في طريقه لإحكام قبضته على القضاء والإدارة وفق النهج نفسه. في المقابل، يحاول نواف سلام كبح تمدّد عون ومحاولة تأمين مساحة مستقلة له داخل الحكم، تجعله نداً لرئيس الجمهورية.
لكنه يجد نفسه في مواجهة حصار متزايد، ليس فقط من قبل عون وفريقه، بل أيضاً من قبل خصومه داخل الطائفة السنية، الذين يلتزمون الصمت حالياً، في موقف تكتيكي ومؤقت، مكتفين بالمراقبة ورافضين التعليق على ما يجري. لكنهم لن يتردّدوا في الانقضاض عليه عند أول فرصة، متهمين إياه بـ”التفريط بصلاحيات الموقع السني”. السبب الأساسي وراء إحجام هؤلاء عن مهاجمة سلام الآن هو خشيتهم من تفسير ذلك على أنه انتقاد غير مباشر للسعودية، التي وإن لم تتدخل مباشرة في هذه الأزمة، إلا أنها تحافظ على موقف داعم لعون وسلام معاً، في إطار دوزنة “التوازنات الجديدة” في لبنان.