في ظلّ الأزمات المتفاقمة التي يعيشها لبنان، برزت مجددًا قضية التدخين من خلال دراسة جديدة بعنوان: "دراسة الجدوى الاقتصادية للاستثمار في مكافحة التبغ في لبنان"، أطلقتها وزارة الصحة العامة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وبدعم من مؤسسة بلومبرغ للصحة العامة، مسلّطةً الضوء على الأعباء الصحية والمالية الهائلة الناتجة عن استهلاك التبغ في البلاد.
وتهدف الدراسة إلى إظهار العبء الصحي والاقتصادي الكبير الناجم عن التدخين في لبنان، مع التركيز على السياسات الفعّالة التي يمكن أن تساهم في تقليل هذا العبء إذا ما تمّ تنفيذها.
ووفق ما ورد فيها، فإن أكثر من 9,200 حالة وفاة تُسجّل سنويًا في لبنان بسبب التدخين، ما يعادل أكثر من ربع إجمالي الوفيات في البلاد. كما تبلغ الخسائر المالية الناجمة عن التدخين نحو 5.3 تريليون ليرة لبنانية سنويًا (ما يعادل 140 مليون دولار)، أي ما يقارب 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتوصي الدراسة باعتماد مجموعة من السياسات الصارمة لمكافحة التبغ، أبرزها رفع الضرائب، وتفعيل الرقابة، وتطبيق القوانين ذات الصلة، وهو ما قد يُنقذ نحو 40,000 شخص بحلول عام 2037، ويوفّر على الدولة أكثر من 15 تريليون ليرة لبنانية.
وفي تعليقها على الدراسة، قالت الإعلامية والناشطة في مكافحة التدخين رانيا بارود إن الدراسة الجديدة "تؤكّد المؤكّد منذ زمن"، مشيرة إلى أن الجامعة الأميركية في بيروت نشرت خلال العقدين الماضيين عشرات الدراسات التي وثّقت بالأرقام الدقيقة التأثير الكارثي للتدخين على صحة اللبنانيين واقتصادهم. وأوضحت أن دراسة أجريت عام 2011 أظهرت أن التدخين كان يودي بحياة 3,500 لبناني سنويًا، دون احتساب المتأثرين به بشكل غير مباشر.
وأضافت بارود أن تلك الأرقام كانت الدافع وراء النضال الذي خاضته مع عدد من الناشطين داخل المجلس النيابي لإقرار قانون منع التدخين في الأماكن العامة، المعروف بقانون 174، والذي أُقر عام 2011، لكنه واجه سلسلة من العراقيل في مراحل تطبيقه من قبل الحكومات المتعاقبة.
كما أكدت أنه لو تم تنفيذ القانون بشكل صحيح منذ لحظة إقراره، لما وصلت البلاد اليوم إلى هذا العدد الكارثي من الوفيات الذي يفوق تسعة آلاف حالة سنويًا، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل عقد.
وانتقدت بارود غياب الإشارة إلى القانون خلال إطلاق الدراسة، رغم أنه لا يزال قائمًا وساري المفعول، ومتطابقًا مع توصيات الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ التي وقّع عليها لبنان عام 2005.
وأوضحت أن القانون ينص بوضوح على منع التدخين كليًا في الأماكن العامة المغلقة، وفرض غرامات على الأفراد والمؤسسات المخالفة، وصولًا إلى الإقفال بالشمع الأحمر، فضلًا عن حظر الإعلانات بكل أشكالها، وفرض التحذيرات الصحية على علب التبغ، ومنع بيعه للقاصرين، وحظر استيراد السجائر الإلكترونية.
كما أشارت إلى أن رفع الضرائب على منتجات التبغ كان جزءًا أساسيًا من استراتيجية المكافحة، حيث سعى فريقها حينها إلى رفع سعر علبة السجائر إلى ما يعادل 5.5 دولارات، إلا أن الأزمات المالية والنقدية التي تلت ذلك أعاقت هذا المسار.
وأكدت بارود أن بعض بنود القانون لا تزال تُطبّق حتى اليوم في أماكن محددة مثل الجامعات والمدارس وبعض المؤسسات الرسمية، مشددة على ضرورة أن تتحمل وزارة الصحة مسؤوليتها في استكمال هذا المسار عبر تفعيل بنود القانون، وتحديث قيمة الغرامات بما يتناسب مع انهيار العملة، وتطبيق آلية فعالة لتحصيلها.
ورأت أن هذا القانون، إذا طُبّق كما يجب، يمكنه إنقاذ عشرة آلاف حياة سنويًا وتوفير 140 مليون دولار على الأقل للخزينة العامة. وختمت بالقول: "ما ينقص لبنان ليس الدراسات، بل التنفيذ. فانفضوا الغبار عن القانون 174 وطبّقوه على الأرض".
تبقى الصحة العامة ركيزة أي مجتمع يسعى إلى الاستقرار والنهوض. ومع كل رقم يكشفه العلم، تبرز الحاجة إلى سياسات تتجاوز الورق وتُترجم إلى أفعال. فمكافحة التبغ ليست مجرد خيار صحي، بل خطوة نحو مجتمع يحمي أفراده، ويحفظ طاقاته، ويؤمن بأن الوقاية هي استثمار في الحياة. وبين الأرقام والوقائع، تظلّ المسؤولية جماعية، والفرصة متاحة لبناء غدٍ يكون فيه الهواء أنقى، والحياة أطول، والخسائر... أقل.