المحلية

placeholder

جورج طوق

ليبانون ديبايت
الاثنين 04 تموز 2022 - 18:25 ليبانون ديبايت
placeholder

جورج طوق

ليبانون ديبايت

الوزير الذي "ركّب الدَكر ع الدَكر"

الوزير الذي "ركّب الدَكر ع الدَكر"

ليبانون ديبايت - جورج طوق

في تراث "الخياطة" اللبنانية، استُعمل، لفترة مديدة، تعبير "توب" كوحدة لقياس كمية من القماش، غير سخيّة. جميل هو التراث، يرسم لنا صورة، لا بأس بها، عمّا تختزنه المجتمعات من عادات وأفكار وقواعد زالت، وأُخرى ما زالت سائدة. ليست هذه الأفكار والعادات والعِبر، بالضرورة، ذات قيمة أخلاقية أو اجتماعية، لكنّ قوّتها وقيمتها تكمنان في حقيقتها. حقيقة استقتها نحتاً بإزميل الزمن وخلاصات "التجربة والخطأ"، على مدى سنوات وعقود أو حتّى قرون. هي الناطق الرسمي والصادق باسم الفكر المجتمعيّ.

"الكذب ملح الرجال". مقولة فائقة الإنتشار في مجتمع السبع عشرة طائفة. في كلٍّ منها الكذب حرام. الملح، أي الكذب، هنا إيجابي وضروري، ويضيف إلى الرجولة نكهة ودهاء. لم تتكبّد المقولة عناء الإفصاح عمّا هو ملح المرأة. ربّما هو الكذب أيضاً، للتصديق على ملح الرجل، فقط إن اضطّره الأمر. ذكورية وتناقض في جملة من ثلاث كلمات. أيّ كلام في المساواة الجندرية هو "حكي نسوان"، لا ضرورة له، ولا قيمة، ولا يرتقي إلى رتبة "حكي رجال".

كلام النساء محصور بالأفران. كلام الرجال مرتبة متقدّمة، لا تحوزها النساء. لا كلام لهنّ أصلاً، ولا آراء، لا أجساد ولا أرواح. تُزهق أرواحُهنّ إن تحرّرت أجسادهنّ، أو كلامهنّ، أو آراؤهنّ، إذعاناً لكلام الرجال، الذين إن لم يقتلوا للشرف، أو إن تكلّموا في المساواة الجندرية، يصبحون "متل نسوان الفرن". لا نعرف لماذا لم يزل كلامهنّ محصوراً هناك، على رغم المكننة التي طرأت على الأفران. كلام الرجال يقول بأن تُقتل المرأة صوناً لشرفها. يقتلها أخوها الرجل، أو أبوها أو زوجها، لا يهمّ. المهم أن يكون "دكَر" يزيّنه السلاح. السلاح زينة الرجال، فيما للنساء زينة العطر، والألوان، والشعر، حرام. المفارقة هي أنّ من لا أب لها ولا أخ أو زوج تنجو بالجرم. لا يقتلها باقي الرجال، بل يحتفون بها. يرون فيها فرصة لإشباع ذكوريّتهم بلا حساب، فـ "الرزق السايب ب علّم الناس الحرام". الحرام هنا حلال. لا ندري لماذا لا تُقتل تلك لشرفها؟ لماذا يختلف الحُكم للجرم نفسه؟ الجواب بديهي: المرأة تُقتل صوناً لكبرياء الرجل وشرفه هو. شرفه الذي يُفضّ مع غشاء ما عند ملتقى ساقيها.

الأقوال التراثية هي كلام فائق الجمال، في الإختصار والبلاغة والنثر الزاخر بالمعاني. يعوم بها باطن العقل المجتمعي على ألسنة أهل المجتمع نفسه. يفضح نفسه بنفسه. "أنا وخيّي ع إبن عمي وأنا وإبن عمي ع الغريب". قَول آخَر غريب. يخيّل للمرء أنّه يثمّن التضامن العائلي، وهذا أمر حسن، ولكن لا مكان للحق فيه ولا للعدالة. قف مع الأقرب، عشيرتك، منطقتك، حزبك، طائفتك. لا تتلهَّ بقضايا الحق والحرية والعدالة. لا تناصر مظلوماً، أو مضطهداً، أو مستضعفاً، ما لم يكن ابن عمّك. لا تقف معهم، لا سيّما إن ظلمهم أخوك. من هو الغريب؟ لا نعلم. أهو هارب أم لاجئ أم عاملة منزل؟ لا يهمّ. أخي وابن عمي وأنا عليه، ضدّه. لا يهم إن كان مخطئاً أم مصيبا. هو غريب، ونحن ضدّه، حتى لو كان قمحاً وعقول إخوتنا زؤاناً. تراثنا يجاهر "زيوان بلادي ولا قمح الصليبي". مقولة بليغة في الوطنية وحب البلاد، لكن رهاب الغرباء يستتر بها. لا لزوم للتشخيص. العوارض واضحة ومتجذّرة. نحن نعاني من رهاب الغرباء، قبل أن يعطيه العلم توصيفاً وتسمية بقرون طويلة.

يكنّ تراثنا للذكاء تقديراً عميقاً. يقول: "شيطان مدَمشَق ولا ملاك غشيم". يفضّل الدهاء على الغباء، حتى لو كان الأول شيطانياً والثاني إنسانياً أو عادلاً أو صادقاً. الذكي أفضل، وينجز أكثر، فهو قادر أن "يُرَكّب الدكر ع الدكر". لماذا ركوب الذكر للذكر بحاجة لكل هذا الدهاء؟ لماذا المِثليّة مضربٌ لأمثال شعبية عن الذكاء؟ إن كان فيه كل هذا الدهاء، فلماذا هو مستنكر وحرام ومخالف للطبيعة والعادات والتقاليد؟ هل مِثليّة النساء بحاجة للمقدار ذاته من الدهاء؟ أسئلة كثيرة بلا أجوبة.

جميلة هي الأقوال التراثية الشعبية. تساعد في أبحاث علم الإجتماع والأنثروبولوجيا. تقول الحقيقة والمبادئ التي يسير بها المجتمع. ربما لو عاد إليها وزير الداخلية قبل إصداره تعميمه الموسوم بعبارة "عاجل جدّاً"، لما أخد بكلام المراجع الدينية التي نصحته بالتصرّف ضدّ حرية الأفراد بهويّاتهم الجنسية. أقوال التراث لم توفّر المراجع الدينية. قالت فيهم: "تَوب قماش ودقن ب بلاش". ربما كانت لتضيف: "… وعقل فوفاش"، لكنّ وزير الداخلية حديث العهد، وهي لم يتسنَّ لها الوقت لصياغة كلامٍ في محادثات "تَوب قماش" وحقيبة وزارية.

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة