المحلية

الجمعة 25 آذار 2022 - 18:29

ويليام نون وأهراءات القمع

ويليام نون وأهراءات القمع

"ليبانون ديبايت"- جورج طوق

يجزم أفلاطون، أحد أكثر العقول تنويراً في التاريخ، أنّ مرتكب المظالم ينتهي، حتماً، أشدّ بؤساً من متلقّيها. في زمن الفيلسوف الأثينيّ، لم تكن العدالة ترفاً للبسطاء. ربّما أراد، ببساطة، ذرّ بعضاً من الأمل في قلوب المظلومين. ليس واضحاً إن كان يدعوهم لانتظار مرور جثث ظالميهم على حافة النهر، أم للتمسك بالنضال باتجاه إغراق المرتكبين في البؤس. قليلةٌ هي الإجتهادات التي قدّمها التاريخ في دعم صوابية حكمة الرجل هذه، والقلّة جاءت، دائماً، نتاج مثابرة ونضالات، لا استسلام أو نواح وانتظار. ويليام نون، شقيق أحد ضحايا الواجب بجريمة تفجير مرفأ بيروت، ليس ممّن ينتظرون.

ارتكبت سلطة الحرب الأهلية قرناً كاملاً من المظالم والبِدع والشعوذة في الحكم فوق رؤوس وكرامات اللبنانيين، أسقطتهم في عمق بئر البؤس والذلّ والموت والنهب والخوف والعوز، فيما لا يلوح، حتّى الساعة، في الأفق أية بوادر لغمر أمرائها ببؤس أشدّ، حسب ما قاله أفلاطون. ما الذي يمكن أن يكون أشدّ بؤساً من تفجير مدينة برمّتها فوق رؤوس أهلها والأطفال؟

قسم يسير من المواطنين ائتلفوا رومانسية البؤس وأُغرموا بظالميهم، ومن الغرام ما قتل. هؤلاء يرَون أفلاطون متآمراً وغبيّاً. هم ربّما من هواة المازوخية أو يعانون من متلازمة ستوكهولم، أو ربّما، ببساطة، انكسروا كليّاً وهم ضحايا أيضاً. الجواب عصيٌّ على التحليل السياسي الاجتماعي، وهو متروك لتشخيص طبّي نفسي. هؤلاء حاقدون على كلّ من ينتظر العدالة على حافة النهر وعلى من يناضلون في سبيلها على حدٍّ سواء. لا يرون في رفع صوت طلباً للعدالة والحق سوى تآمر وأوامر. حاقدون يتّهمون طالبي العدالة بالحقد. مناصرو الظلم يكفّرون مناصري العدالة، ويهلّلون لجرّ شقيق الضحية إلى التحقيق. مفارقات لا يهضمها المنطق.

لا تقِلّ مآثر أمراء الدم ومناصريهم في لبنان اليوم سوداوية عن أهوال كونتيسه الدم في مملكة هنغاريا في القرن السادس عشر. يُحكى أنّ الأخيرة عذّبت بأبشع الوسائل ما يقارب الـ600 فتاة من الفلاحين الفقراء، قطّعت أوصالهم وشربت من دمائهم. كانت تؤمن أنّ دماء العذارى تحفظ جمالها وتقيها من الشيخوخة. ليس ما يفعله أمراء الحرب والحكم في لبنان مختلفاً، فهم يحفظون جمال مناصبهم بدماء المواطنين، لا سيّما الفقراء منهم. لكنّ الوجه الأكثر دلالة هو التطابق المطلق في سلوكيات المناصرين، حتّى بفارق خمسة قرون. رفض مناصرو الكونتيسة باثوري حينها كلّ فكرة تجريمها ومحاكمتها، رغم مئات الشهادات والأدلة الحاسمة ضدّها. اعتبروا حينها أنّ أهالي مئات الفتيات القتلى يتآمرون على معبودتهم، وينفّذون أجندات لجهات مبهمة لإسقاط ملكتهم، النسخة الأنثى من دراكولا. اليوم، في القرن الحادي والعشرون، يرفض مناصرو أحزاب الذلّ كل أشكال المحاسبة والمحاكمة والعدالة. يتّهمون أهالي ضحايا جريمة تدمير بيروت بالخيانة والتآمر وبتنفيذ أجندات لجهات غريبة وعجيبة. 216 ضحية وآلاف الجرحى وخسائر مهولة في الممتلكات على مرأى ملايين الهواتف الذكية. يحكي أحد آباء الضحايا، والدموع تغسل خدّيه، أنّ بقايا الجثة التّي استلمها من الجهات الرسمية كانت عظمةً بحجم شمعة بيده كان يشعلها للصلاة عن روح فقيده.

استدعاء ويليام نون إلى التحقيق هو جريمة أخلاقية، لا تقلّ بشاعة عن الجريمة التّي قتلت أخاه ورفاقه. والأكثر بشاعة هو تهليل مناصري منظومة القتل لاستدعاء شقيق ضحية لا يطلب غير العدالة. مواطنون يحتفلون بالقمع، ويهتفون لمن فجّروا أهراءات القمح ليرفعوا مكانها أهراءاتً للقمع.

لو كان أفلاطون في بيروت في 4 آب المشؤوم، كان ليطمئِن مجدّداً ويليام بحتمية البؤس لقاتلي أخيه جو. كان أيضاً ليمشي معه بين صفوف ثوّار 17 تشرين، ويهتف بالـ "هيلا هيلا هو…".

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة