"ليبانون ديبايت" - جمانة شهال تدمري
يعتمدُ الحرفي في عمله على مهاراته الفردية الذهنية واليدوية. يكتسب كل يوم خبرة جديدة فيطوّر ويتقن أعماله شيئا فشيئا، تعد الحرف اليدوية أو الصناعات التقليدية هي الصناعات المعتمدة على اليد، أو باستخدام الأدوات البسيطة فقط دون استعمال الآلات الحديثة، وهي أحد الخصائص للصناعة الحرفية.
الاعمال التي كان يمارسها اجدادنا قديما مهن شاقه وبسيطة تحتاج الى الصبر والمثابرة ورغم ذلك اعتمدوا على انفسهم و امتهنوا تلك الحرف، تحتل الحرف اليدوية والصناعات التقليدية مساحة واسعة من التراث يعتمد فيها الصانع على مهاراته الفردية الذهنية واليدوية، باستخدام الخامات الأولية المتوفرة في البيئة الطبيعية المحلية أو الخامات الأولية المستوردة .
وتنعكس أهمية الحرف والصناعات اليدوية في أنها تدل على جوانب الهوية الوطنية للدولة المنتجة للحرف والصناعات اليدوية، ويمكن أن تحقق مكاسب مادية رائعة من اهتمامها وتدعيمها للحرف اليدوية، حيث إن حجم التجارة العالمية للحرف اليدوية والتقليدية يفوق 100 مليار دولار سنوياً.
أدركت كثير من البلاد أهمية استثمار تراثها الحرفي، فعملت على إقامة آلاف الورش والمصانع. وبالتالي خلق مئات الألوف وربما الملايين من فرص العمل لشبابها، وإلى فتح أسواق لتصريف منتجاتها في كل مكان، ما جعلها تتحول من دول فقيرة، أو دول مستهلكة لما ينتجه غيرها إلى دول غنية من عائد تصدير منتجاتها الغزيرة من الحرف اليدوية لمختلف أنحاء العالم، إضافة إلى تعميقها للبعد الثقافي كدول ذات إرث حضاري يجعلها تقف باعتداد أمام الدول المتقدمة في عصر العولمة.
من أبرز الحرف في لبنان والتي باتت في خطر الاندثار هي صناعة الزجاج المنفوخ والتي تعتبر مدينة طرابلس احدى ابرز المدن التي ما زالت تلك الحرفة تنتشر في احيائها التراثية، تعتبر حرفة صناعة الزجاج من الحرف القديمة جداً، وهي من الحرف اليدوية التي تعتمد على النفخ لتشكيل الأواني والتحف الزجاجية بالإضافة إلى قوالب نحاسية للصب بأشكال وأحجام مختلفة.
من ابرز الادوات المستخدمة في تلك الحرفة الملاقط والقوالب النحاسية وأنابيب النفخ بأحجام مختلفة وعصا لالتقاط المادة الهلامية التي تصير زجاجاً في ما بعد.
لا تخلو مهنة النفخ في الزجاج من المخاطر حيث يتعرض العاملون للحرق او للجروح كما إنهم يزاولون المهنة امام افران شديدة الحرارة، تطورت المهنة لكنها حافظت على النفخ كتقنية اساسية تستعمل لانتاج أصناف وأشكال الزجاجيات. ومع تطور صناعة الزجاج بالتقنيات الصناعية الأكثر تطوراً، بات إنتاج الأوعية الزجاجية أسهل وأسرع كالقناني والمستوعبات المختلفة والنراجيل. وصناعة الزجاج ظلت بحاجة إلى النفخ لتصنيع بعض الأوعية كالإبريق، وأشكال من المزهريات، وقبلها بلورات القناديل والمشاعل وقناني العطور الصغيرة وغيرها.
يتجسد حضور النفخ بالزجاج إما في محترفات خاصة، كمحترف الصرفند، أو كقسم من أقسام مصنع زجاج حديث كمصنع البداوي قرب مدينة طرابلس. في القسم المتعلق بالنفخ، يخصص للتقنيين شباك خاص في الفرن الذي يذيب الزجاج، بينما يخصص للتقنيات الأخرى شباك أو أكثر على الجانب الآخر من الفرن، بحيث لا تتضارب ضرورات العمل المختلفة كلياً بين التقنيتين.
وفي الشق التنفيذي يقف عامل النفخ أمام كوة الفرن المخصصة له، يحضر قضيباً حديدياً يناهز الثمانين سنتيمتراً، ويستخرج من الفرن كتلة زجاج صغيرة ذائبة، ويعالجها تكويراً بإسنادها إلى جدار الفرن الخارجي، يستخدمها لكي يضبط بواسطتها تحريك القطعة التي سيصنعها. يضع القضيب والقطعة العالقة به جانباً على مقربة منه، ثم يستخرج بقضيب أطول، كتلة زجاج ذائبة كبيرة، ينفخ بها عبر القضيب، فتأخذ شكلاً لا يعطي مواصفات الإبريق.
وفي خطوة ثانية، يضعها بقالب آخر، ينفخ فيه بقوة إلى أن تأخذ القطعة شكل الإبريق، وهي مستمرة بالالتصاق به من فتحة الإبريق العليا. ينقلها إلى نقطة قريبة من فتحة الفرن، ويقص مسكة الإبريق، فيتحرر من القضيب. يأتي بالكتلة الصغيرة على طرفه، ويلصقها على الإبريق، وينقله إلى الفرن، وفتحته العليا داخل اللهب، إلى أن تلين قليلاً، فيسحبه، ويوسع فتحته بتقنية خبيرة خاصة، ثم يسحب بعض الزجاج الذائب، ويلصقه بين المسكة، وأعلى الجسم المنتفخ من الإبريق، فيجعل منها المسكة الصغيرة النصف المستديرة التي يمكن بواسطتها إحكام الإمساك به.
ويأتي دور تركيب الفتحة التي يصب الماء منها بالفم دون أن يمسه، وتسمى لدى بعض العامة بـ"الزمولة"، فيثبتها على دفعتين، في الأولى يقطع الزوائد في الزمولة، ثم يدخل القطعة في الفرن، وهي لا تزال ملتصقة بالقضيب، ويعطي الإبريق الشكل المطلوب، ويبرمه على حرارة أعلى، لفترة وجيزة ثم يخرجه من الفرن، ويعطي للزمولة الحجم اللازم، ويرمي جانباً الكمية الزائدة، فيأخذ الإبريق شكله النهائي، ثم يضعه في فرن التبريد.
بتقنيات متشابهة، يصنع الفني أوعية بأشكال أخرى، وأصنافاً من المستوعبات التقليدية، حيث يتعذر تنفيذها في التقنية الحديثة.
للصناعات اليدوية اهمية اقتصادية كبرى خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان، نعدد منها:
-توفير فرص عمل أكبر عن طريق تخصيص موارد أقل مقارنة بمتطلبات الصناعات الأخرى وقابليتها لاستيعاب وتشغيل أعداد كبيرة من القوى العاملة بمؤهلات تعليمية منخفضة .
-الاستفادة من الخامات المحلية وخاصة المتوفرة بكميات اقتصادية .
-تستطيع المرأة كأم وربة منزل ممارسة الحرفة في الأوقات التي تناسبها، وفي الأماكن التي تختارها أو حتى في منزلها .
-انخفاض التكاليف اللازمة للتدريب، لاعتمادها أساساً على أسلوب التدريب أثناء العمل فضلاً عن استخدامها في الغالب للتقنيات البسيطة غير المعقدة.
-المرونة في الانتشار في مختلف محافظات ومناطق الجمهورية التي يتوفر بها خامات أولية بما يؤدي إلى تحقيق التنمية المتوازنة بين الريف والحضر ويؤدي إلى الحد من ظاهرة الهجرة الداخلية ونمو مجتمعات إنتاجية جديدة في المناطق النائية .
-المرونة في الإنتاج والقدرة على تقديم منتجات وفق احتياجات وطلب المستهلك أو السائح .
اليوم وبعد كشف اولي على الاضرار بعد انفجار بيروت قدر خبراء حجم الزجاج المنهار بنحو الاف طن، تعمد بعض الجمعيات الخيرية على جمعه وارساله الى معمل نفخ الزجاج في منطقة البداوي ما قد يشكل مواد خام مجانية لذلك المعمل يكفي لانتاج العديد من القطع الزجاجية، والاهم ان نقل الزجاج المحطم الى المعمل المذكور سيكون له دلالات اقتصادية كبيرة خصوصا على صعيد منح فرص عمل للعديد من العائلات في الشمال، وتوفير سلع سيتم تأمينها من الصناعة الوطنية عوض استيرادها ما سينعكس ايجابا على الميزان التجاري العام.
في النهاية مهنة نفج الزجاج قديمة جداً وهي من المهن الحرفية التي تدعمها جمعيتنا للحفاظ على التراث الصناعي الحرفي في لبنان، ونرجو ان تولي الوزارات المختصة هذا الشق الاهتمام الكافي للحفاظ على الغنى التراثي والثقافي.
جمانة شهال تدمري - "رئيسة جمعية تراث طرابلس بيروت والمديرة العامة لجامعة ESUIP في فرنسا".
اخترنا لكم



