المحلية

الثلاثاء 18 آب 2020 - 02:01

لوقا البشير من نافذة سيارتي

لوقا البشير من نافذة سيارتي

"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

كتَبَ لوقا البشير في موتِ المسيح : "وكانت نحو الساعة السادسة، فكانت ظلمة على الأرض كلّها إلى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه، ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي، ولما قال هذا أسلمَ الروح".

من علاماتِ الأزمنة ان يدوّي إنفجارُ المرفأ حوالي الساعة السادسة مساء أيضاً. كنت قد اجتزتُ بسيارتي الأمتارَ الخمسةَ الأخيرة من جسرِ الدورة باتجاه الشمال. أشارَ لوقا البشير أن الشمسَ أظلَمَتْ قبل موتِ المسيح. أجزمُ أنني من نافذةِ سيارتي رأيتُ السماءَ تُظلِمُ لثانيةٍ أو ثانِيَتَين قبل سماعي الدوي. التبريرُ العلمي هو انقطاعُ التيار الكهربائي كمقدمةٍ طبيعية للعصف . من منظورِ التدبيرِ الإلهي العتمةُ قنوطُ السماء. لم يجد الضحايا متَّسعاً من الوقت ليقولوا " يا أبتاه بين يديكَ نستودعُ أرواحَنا ". أسلَموا الرّوح بومضَةِ بَرق.

لكلِّ ضحيةٍ قصّة. صار بلدُنا قصصَ ضحايا. غابت قصصُ الحب والمغامرة وحضرت قصصُ الموت. اللبناني بات يحمِلُ نعشَهُ معه كعلّاقةِ المفاتيح. النعوشُ مفاتيحُ اللبنانيين لفتحِ أبوابِ الصُّدَف.

ليس هناك من بلدٍ في العالم يمكنُ أن تموتَ فيه أو تعيش بسبب الصدفة أو بِفَضلِها أكثر من لبنان. أن تنجو من الموت في لبنان هو محضُ صدفة. لو كنتُ على أوتستراد الكرنتينا قبل ثلاث دقائق في الرابع من آب لكنتُ بين عدادِ القتلى أو الجرحى أو المفقودين.

أجملُ ما في الصدفةِ أنها خاليةٌ من الإختيار يقول محمود درويش. ألّا تنتظِر شيئاً من بلدِكَ وأن تسلّمَ نَفْسَك طائعاً مُختاراً لشيءٍ ما قد يستجِدُّ هو جزءٌ من سعادتنا اليومية كلبنانيين. الصدفةُ تختارُكَ في لبنان. يمكنُ أن تخططَ لإصلاحِ عطلٍ ميكانيكي في سيارتك فإذا بك تجدُ نفسك في نعشٍ وسطَ ندبِ وبكاءِ الأحبة. دولتُك في الأصل حُبِلَ بها بالصدفة. كان من المفترض أن يكونَ النكاحُ الإستراتيجي بين الحلفاء والرجلِ المريض في نهاية الحرب الأولى مغامرةً جنسيةً عابرة. اتضّحَ انه كانَ حَبَلٌ قَسريٌ أنتجَ جمهوريةً لقيطةً أبوها قوّاد وأمُّها بائعةُ هوى.

ألكسندرا إبنةُ السنواتِ الثلاث كانت تختارُ مريولَ المدرسة. كانت قد بدأت بتلفّظِ كلماتٍ جديدةٍ تكتشفُ عبرها الأشياء. اختار أهلُها العودةَ الى لبنان. لم يعرفوا أن الصدفةَ اختارتهم وقتلتْ ألكسندرا. السيارةُ التي انتُشِلَت وسائقُها في داخلها في عمقِ البحر قبالةَ المرفأ غرقت بالصدفةِ أيضاً. اختارَ سائقُها المرور حيث قذفه العصفُ كرمى رغيفِ الخبز وقسطِ المدرسة. بلَعَهُ البحرُ كما بَلَعَ أحلامنا.

صرخَ يسوع بصوتٍ عظيم قبل أن يُسلِمَ الروح. غضبٌ وكبرياءُ حنجرةٍ نادراً ما يجتمعان في جسدٍ ضعيف على وشك التلاشي.كَم ظُلِموا أولئك الذين قَتَلهُم تُجّار النيترات. لم يفشّوا خلقَهم ولو بصرخة. إيلي إيلي لما شَبَقتَني. مِن مثاويهم يصرخُ المغدورون " دولتنا دولتنا لما شَبَقتِنا ". في المقلبِ الآخر دولةٌ بلا طبلة أُذُن. تعوّدتْ على طهو الشهداء في قِدرِ الفساد. دولةٌ تستهلكُ شعبَها كما يستهلكُ دراكولا الدماءَ الطازجة.

جمهوريةُ المثاوي اللبنانية. الأحزان صارت أكبر من نتائجِ التحقيق والمجلس العدلي. سيرتحلُ عن هذه المقبرةِ الجَماعية آلافُ اللبنانيين. سيحملونَ صُوَر أحبائهم ليعلّقوها على جدرانِ بيوتٍ صغيرة في مجاهلِ العالم. سيدخلونَ برنامجَ محوٍ للذاكرة إذا توفّر. كلُّ ما يذكّرُهم بلبنان سيخضَع للتدوير ويتحوّل إلى نفاياتٍ عاطفية. سيُنجبون في المهاجِر وسيحرصون على تعليمِ أولادهم أناشيدَ وطنيّةٍ جديدة. " كُلُّنا للوطن " تمخّض فصار " كلُّن يعني كِلُّن ". " كلُّن " باقون. القتلى فقط هاجروا الى الذاكرة. ذووهم أخذوا بقايا ملابس قتلاهم معهم. كلّما غلَبَهُم الشوق تنشّقوا قميصاً من قمصانِ موتاهم.

القديسة تيريزا الأڤيلية قالت في الموت: " أموتُ كَي لا أموت ". لم يطلب الضحايا الموت في الرابع من آب. كانوا يقضمونَ الحياةَ بشهية. جاءهم الموتُ بالصدفة. أن يأخذكَ الموتُ بمشيئة ربانيةٍ شيء وأن يميتُك مجرمون شيء آخَر. مع الله تموت كي لا تموت. مع المجرم تموتُ لتُميتَه أولاً. في المحصّلة، ولو بعد حين سيكونُ القاتلُ لصَّ اليمين. سيموتُ ليموت. فقط ألكسندرا ومعها أكثر من مئة وسبعين ضحية سيموتون كي لا يموتوا.

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة