المحلية

placeholder

يوسف الخوري

ليبانون ديبايت
الاثنين 28 تشرين الأول 2019 - 19:28 ليبانون ديبايت
placeholder

يوسف الخوري

ليبانون ديبايت

رسالة الى المنتفضين... حذارِ من أن تـتـنظَّموا أو تـنـتظِموا!

رسالة الى المنتفضين... حذارِ من أن تـتـنظَّموا أو تـنـتظِموا!

"ليبانون ديبايت" - المخرج يوسف ي. الخوري

تَشغلني منذ عدّة أشهر آفةُ تدخين النرجيلة التي تغزو مجتمعنا أكثر فأكثر، وأشدّ ما يقلقني في هذه الظاهرة سَلبُها ثلاث ساعات على الأقلّ يوميًّا من نشاط شبابنا المدمنين عليها بنسب مرتفعة، حتى بتّ أشعر بأننا أمام جيل خمول مشدود من شفتيه بنربيج نرجيلة، وأقص طموحاته نيل تأشيرة هجرة للهروب من واقع وطننا المرّ.

وصرت لا أفوّت فرصة لأسأل فيها المتعمّقين في السلوكيّات الاجتماعية: "ما الذي يُثير هؤلاء الشباب ويحرّكهم للعب دورهم كأجيال فتيّة تثابر أقلّه على تحسين ظروفها الاجتماعيّة بما يضمن عيشها بكرامة ويَعِد بمستقبل أفضل لوطننا؟" أمّا الأجوبة التي كنت أسمعها، فكانت بمجملها تؤكّد أن لبنان مسيّرٌ بالقضاء والقدر وليس بسواعد أبنائه، كَحين قال لي صديقي الأستاذ وائل خير، المشهود لخبراته في مجالي حقوق الإنسان والحق الإنساني: "لا تُتعب نفسك بالبحث عمّا يُوقِظ الشباب من غفوتهم، فاليقظة ستأتي من حيث لا يدري أحد ... قلقُك يُشبه قلق النساء اللواتي حضرن إلى قبر المسيح لتحنيطه، إذ في الطريق كنّ يتساءلن من يُدحرج لهنّ الحجر الكبير عن باب القبر، ولما وصلن وجدن الحجر قد دُحرج والمسيح قد قام." ثم أردف قائلًا: "مَن كان يتوقّع تفكّك الاتحاد السوفياتي أو انهيار جدار برلين أو خروج السوريّين من لبنان في العام 2005 ..."

كلّما كنت أبحث في الأجوبة المختصة بمزاج الشباب اللبناني، كنت أزداد يأسًا وفقدانًا للأمل بلبنان جديد، حتى اندلعت فجأة شرارة الواتساب!!

كنت أتابع نشرة الأخبار على إحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية حين قطع المذيع الأخبار ونقلنا بالمباشر إلى "جسر الرينغ" حيث بدأ عشرات الشبّان بالاحتجاج على محاولة وزير الاتصالات وضع تعرفة على خدمة الواتساب. للوهلة الأولى، لم أكترث للحدث معتقدًا أنّه سيكون كباقي تحرّكات مَن يدّعون أنهم مجتمع مدني والتي بالغالب تنتهي بمهاجمة الطائفية والدعوة إلى العلمنة، وفجأةً، مرّ أمامي على الشاشة شاب غاضب من بين المحتجّين وتوجّه بكلامه إلى المشاهدين قائلًا بالحرف: "ترِكوا الأراغيل وقوموا نزلوا عالشارع. أنا متلكن بدخّن أرغيلي وما شاركت قَبِل بأيّ تحرّك، بس اليوم ما بقى ينحمل الوضع!".

"أوف أوف أوف" عجيب أمر هؤلاء الناس! لا الضرائب، لا غلاء المعيشة، لا الركود الاقتصادي ولا البطالة حرّكوهم، ويحرّكهم رسم 6 دولارات على الواتساب؟!! ما الذي يحصل؟! وإذا بالجواب يأتيني هذه المرّة من إبني (22 سنة) الجالس بقربي وهو ليس من المدمنين على تدخين النرجيلة، بل على "البلاي ستايشن" التي هي باعتقادي آفة أخرى تنخر نشاط شبابنا.

قال إبني بحماسة لم أعهدها عنده من قبل: "أبي، أنت تدّعي وتفاخر بإلمامك في الأبحاث الميدانية، لكنّك في الحقيقة منظّر على الورق لا أكثر! ليست القصّة قصّة الـ 6 دولارات، بل قصّة انتهاكٍ لمنصّة هي الوحيدة المتاحة لنا كشباب للتواصل فيما بيننا، وتُشعرنا بأنّ لنا خصوصيّة، لأنّها غير مراقبة، وخصوصيتنا لا تقل أهميّة عن احتمائكم أنتم بواسطة الواتساب مما تدعونه مراقبة بوليسية لأحاديثكم الهاتفيّة. أتعرف يا أبي أني أستخدم الهاتف الخليوي أكثر منك بعشر مرّات وبفاتورة لا تزيد عن 10% من قيمة فاتورتك وذلك بفضل الواتساب؟ أتعرف أنّ الـ 6 دولار بالنسبة لي كطالب جامعي توازي ألف دولار عندك؟ أتعرف أنّ الواتساب يعلّمني أن أتكّل على نفسي ويساعدني بضبط مصروفي كي لا أزيد عليك الأعباء في هذه المرحلة الاقتصادية الصعبة التي بات الدولار الواحد فيها صعب توفيره؟ أتعرف أنّه ما أن يُحضر الوزير المعدّات اللازمة لضبط الجباية على الواتساب يُصبح بمقدوره خرق سريّة هذا التطبيق، وبالتالي الحدّ من حريّتنا تمهيدًا لإسكاتنا وإخضاعنا؟ لو كنت يا أبي تعرف، لكان وزيرُ الاتصالات - الذي هو من جيلك – يعرف هو أيضًا، لكنّه وللأسف لا يعرف!".

تجمّدتُ مبهورًا أمام إبني، حتى شعرت وكأني لا أعرف هذا الشاب الذي ينام أمتارًا قليلة بعيدًا عنّي كل ليلة. دمعت عيناي تأثّرًا وقلت له: "معك حق! لم أكن أعرف وأنا أنحني بشيبي أمام شبابك على قدرتك المميّزة في قراءة الأمور!" ثمّ أضاف إبني: "في الانتخابات الأخيرة، قدّرت كثيرًا الوقت الذي وضعته لتشرح لي الأهميّة الوطنيّة للمشاركة في الانتخابات، ولحضّي على خوض التجربة والتعبير عن رأيي من دون أن أتأثّر بقرارك عدم المشاركة. يومها، لم أدلِ بصوتي في صندوق الاقتراع، أمّا اليوم فسأُدلي به في الشارع!".

فجأةً، بين واقعية إبني وقدريّة أبناء جيلي المراهنة على مجهول يأتيهم بالفرج، ومشاهدتي على التلفزيون الشباب الغاضب يتدفّق نحو ساحة الشهداء، توضّح لي الرابط الذي يجمع الثلاثة؛ إنّه طائر الفينيق الذي يحرق نفسه عندما يهرم ثم يعود وينبعث من جديد من الرماد حيًّا منتصرًا على الموت.

أسطورة طائر الفينيق هي أبهى صورة تعبّر عن قيامة الشعب اللبناني في انتفاضته اليوم، بالرغم من تشكيك البعض بعفويّة هذه الظاهرة الطارئة، وبتمايزها عن كل التحرّكات السابقة خصوصًا أنّها الوحيدة التي امتدت لأيّام بنفس الزخم والحجم، لا بل إلى تزايد. وعليه، وجدت أنّه من المجدي النظر - بما تيسّر حتى الآن من عناصر – في ظروف ونتائج هذه الانتفاضة الفريدة بنوعها وحجمها في تاريخ لبنان.

العناصر المساعِدة على نجاح الانتفاضة

− العنصر الأهم هو عدم انتظام المنتفضين تحت قيادة موحّدة – أقلّه لغاية الآن - لأنّ التنظيم والانتظام من شأنهما تسهيل مهمّة الأجهزة بتحديد أهدافها واتهاماتها للانقضاض على المعترضين، بينما العفوية وغياب صوت واحد ناطق باسمهم يُربك هذه الأجهزة ويُضيّع بوصلتها.

− لامركزيّة التحرّك وانتشاره في مناطق مختلفة على مساحة الوطن، تصعّب إمكانيّة ضبطه وتشتيته.

− مطالب المنتفضين غير الموحّدة تشكّل عامل قوّة وتماسك لأنّها تمنع مَن يتربّص بهم من التركيز للالتفاف عليهم وزعزعتهم.

− الدور التكاملي المتناغم بين المنتفضين والجيش والقوى الأمنية ووسائل الإعلام أسهم في دحرجة كرة الثلج وتعاظم حجمها.

− سلميّة التظاهر وتطويق أعمال الشغب والتخريب بالسرعة والأسلوب المناسبَين يُكسبان التحرّك قوّة جذب إضافيّة.

عناصر قوّة المنتفضين حتى الساعة

− المفاجأة العفويّة.

− وحدة الخطاب؛ صحيح أنّ المطالب كثيرة وأحيانًا لا تلتقي، لكن توحّدها لبنانية الطرح الصرفة، ما يجعلها متماسكة.

− قوّة الجذب والتي قوّاها النقل المباشر للمحطّات التلفزيونية اللبنانية.

− كسر هيمنة فريقي 14 و 8 آذار والتسويات الجانبية بينهما على حساب الوطن والمواطنين.

− كسر هيبة الأحزاب وحرمان مناصريها ركوب الموجة ككتل، بل كأفراد وتحت راية العلم اللبناني.

− لامركزيّة التحرّك داخل الأراضي اللبنانية وخارجها تشكّل قوّة على مستويين: الأول أقصى أيّ إمكانية لإجهاض حركة المنتفضين بسبب صعوبة السيطرة على أكثر من شارع في نفس الوقت. والثاني فوّت على النظام الاستغلال الطائفي إذ بدا كل شارع ينتفض على القيادات التي من لونه ولا يستفزّ قيادات الآخرين. ولا بدّ هنا من التنويه بالشارع الشيعي الذي تخطّى صوته الثنائية في هذه الطائفة وظهّر إلى العلن خلافاتهما.

− إختفاء أصوات النشاز والتضليل التي طالما تولّى ضخّ سمومها سياسيو النظام عبر شاشات التلفزة.

− إظهار تدنّي المستوى الفكري والكاريزما لدى القيّمين على شؤون البلاد، فأحاديثهم تقلب النفس بينما كلام آخر متظاهر في الشارع يجعلك تفتخر بلبنان وشبابه.

− إظهار قوّة رجال السياسة الفعليّة، إذ تبيّن أنّهم لا يجرؤون على المواجهة وأنّ كل عنتريّاتهم هي في السياسة ليس أكثر؛ فذاك الذي تطاول على الناس قائلًا: "ما حدا يسمّعني صوتو..." تجرّأ الناس عليه وأسمعوه أصواتهم بالملايين وهو مختفٍ. والذي أراد قلب الطاولة، قُلبت الطاولة عليه وبان حجمه المتواضع. ومَن كان يرفع سبابته مهدِّدًا وتهرع إليه كل وسائل الإعلام لتغطية خطاباته، في خطابه الأخير غطّى الشارع على ظهوره وتجاهلت وسائل الإعلام إطلالته باستثناء واحدة منها، كما وأنّ جمهور الشارع رفض تهديداته وتحدّاه.

− إختفت نهائيًا من الصورة خطوط الطوائف الحمر.

أحصنة طروادة كثيرة لكن مقدور عليها

لا يغيب ترقّب المتضرّرين والأحصنة الطروادية عن الساحات بالرغم من رهبة حركة المنتفضين، وهؤلاء – المتضرّرين - يتمثّلون بالعناصر التالية:

− بعض المراسلين والمراسلات التلفزيونيين الذين يتعمّدون الإيقاع بالمتظاهرين عن طريق التوجّه إلى المتظاهرين بنفس الأسئلة المشبوهة كالآتية: "من الذي طلب منكم التظاهر؟" أو "ما هي مطالبكم؟" أو "إنت مين انتخبت؟" وذلك بنيّة الإضاءة على أنّ تحرّك الشعب ليس عفويًّا وأنّه منظّم، لكن هذه المحاولات أزهقها المنتفضون بوعيهم وإدراكهم.
− المروّجون لفكرة المجهول ودمار البصرة في حال سقوط المنظومة الحاكمة الحالية، لاسيّما بعض رموز 8 آذار من الإعلاميّين الذين اعتدنا على تصدّرهم شاشات التلفزة كأبواق مأجورة لهذا التحالف.

− الطامحون للعب دور من خلال الانتفاضة، والذين تبنّوا عن جهل إشاعة تخويف الناس من الفراغ.

− القيّمون على الحراكات المدنيّة المتعدّدة والذين تعصف بينهم خلافات جوفاء على الزعامة، ففي حال نَفَذ هؤلاء إلى قيادة المعارضين، سوف يأتون بخلافاتهم معهم ويدمّرون الانتفاضة.

− الترهيب والتهديد على لسان السيّد حسن نصرالله.

وإذ أظهر المنتفضون وعيًا ومناعةً في وجه الأحصنة الطرواديّة هذه، لا بدّ وأن يبقوا على حيطتهم باتّخاذ بعض الإجراءات التي تحصّنهم، كالتالية:

− الإبقاء على لامركزيّة الانتفاضة.

− تشكيل لجنة مركزية للتنظيم وليس للقيادة، على ألاّ تضمّ ناشطين من الأحزاب اللبنانية أو الحراكات المدنية السابقة كي لا يدمّروا بخلافاتهم جهد الناس المنتفضين.

− من المعروف أنّ الانتفاضات تحتاج إلى قائد، فلا يستعجل المنتفضون هذه الخطوة وليتركوا الأمور تنضج حتى يفرز جمهورهم قائدًا من صلب معدنهم ونزاهتهم.

− كسر حاجز الخوف وعدم التأثر بالتهديد والوعيد وحتى السلاح، لأنّ المنتفضين هم اليوم مَنْ يُخوّف.

− عدم التأثّر بالإشاعات التي تخوّف اللبنانيين من الفوضى في حال رحيل السلطة، لأنّ لبنان يعيش اليوم فعليًّا في فوضى لكنّها مقنّعة، فلتُصبح مُعلنة وواضحة، إذ قد يهون تشخيصها ومعالجتها.

وليتذكّر المنتفضون أنّ قوّة السلطة تكمن في النفس الطويل، وقوّتهم تكمن في الصمود والأناة وعدم التفكّك، فمَن يُثابر أكثر يكسب المعركة.

توصيات توحّد ومطالب بمستوى الحدث

لا يجب أن تضيع مطالب الشارع بالتفاصيل، بل أن ترقى إلى عناوين وشعارات وطنية ترصّ الصفوف وتمتّن وحدة الشعب والولاء للوطن.

− إعتماد طائر الفينيق كرمز للانتفاضة ولقيامة الشعب اللبناني الموحَّد اللاطائفي بحقيقته. (إلى جانب العلم اللبناني)

− التريّث في تنظيم قوّة الشعب، ولتُفرز كل منطقة قائدها، والقادة مجتمعون يشكّلون مجلس القيادة الذي بدوره يفرز قائدًا عامًّا للانتفاضة.

− المطالبة بتعديل الفقرة ب (باء) من مقدّمة الدستور لتُصبح كالتالي: "لبنان دولة مستقلّة في الهوية والانتماء اللبنانيّين. عاصمته بيروت. حدوده لا تُجزّأ وهي تلك المعترف بها في الأمم المتحدة. شعبه واحد غير قابل للفرز العقائدي أو الديني، أو للتبعيّة لغيره من الأمم، تحت طائلة المقاضاة بتهمة الخيانة العظمى والعقوبة الجنائيّة القصوى.

− المطالبة بحلّ كل الأحزاب والتيارات التابعة لجهات أجنبيّة.

− المطالبة بفصل تام بين السلطات.

− توحيد قانون الأحوال الشخصيّة.

− صيانة حريّة المعتقد مع التأكيد على الفصل التام بين الدين والدولة.

− التشدّد في المطالبة بفكّ التحالف بين أصحاب المال والطبقات الحاكمة.

− تفعيل ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي المغيّبَيْن منذ عهد الحريري الأب.

− حلّ كل مغارات الهدر والفساد كمجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب وصندوق المهجّرين.

− تعزيز العملة الوطنيّة وفكّها عن الدولار وجعلها العملة الوحيدة في التداول.

وفي النهاية أتوجّه إلى المنتفضين باعتذار لسوء تقديري لعظمتهم في الأشهر الماضية، وأقول لهم: صحيح أنّ عنوان مقالتي هذه "رسالتي إلى المنتفضين" لكنّها لم تولد إلا من مشاهداتي لاحتلالكم الساحات ومعاينتي وجعكم الذي هو وجع كل لبناني شريف ووطني، لذا كان يصلح أن يكون العنوان "رسالة المنتفضين إليّ".

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة