عندما تقرأ أو تسمع أو ترى أحزاباً وقيادات ومرشحين لمختلف الانتخابات في أوروبا، وأميركا، ترفع شعار “فرنسا “أولاً” أو “أميركا أولاً”، أو بريطانيا أولاً… الى آخر أولاً وأولاً… يخطر في بالك، أن هذه الدول “العظمى”، بحاضرها وماضيها، قد فقدت كل شيء: استقلالها، هويتها، اقتصادها، سيادتها،.. وان جيوشاً “كوكبية” تحتلّها. ولذا فتحت معركة “التحرير” على مصاريعها: الإسلام!! انتزع منا كل شيء، مبادئنا، أرضنا، تاريخنا، ونمط حياتنا، وحرياتنا، فها نحن نعلن حرباً من أجل استعادة “أرضنا” السليبة، والتحرر من “الاستعباد الخارجي”.
ترامب وَلْوَلَ، وهَذَى، وأعلن حالات الطوارئ، ضد المكسيك، والإسلام، والعرب، وأوروبا، والحلف الأطلسي، و…العَولمة، و”وول ستريت”… فكل هذه، وهؤلاء انتزعوا من أميركا “أجمل ما فيها” بل دمروا أميركا… وها هي تحتاج الى ثورة على كل ما تسبب في “دمارها”، وشوّه صورتها، وأضعفها، إذاً،نحن في ثورة دونكيشوتية لاسترجاع “مجد أميركا” “الهنود الحمر” (قُتل منهم 20 مليوناً)، والسود (استبعدوا عشرات السنين!)… و”عظمة ريغان”، و”عبقرية بوش الابن”. “أميركا أولاً!”…
وعلى الضفاف الأخرى عندنا قرائن وتوائم لترامب (أعرق منه)، في فرنسا: فيون (الواقع تحت ثقل فضائح زوجته بينيلوب المالية)، وماكرون، واليساري الزجال هيلانشون، من دون أن ننسى “الأيقونة” الشعبوية والانعزالية والكراهية “مارين لوبان”. وها هم اليوم في موسم الانتخابات الرئاسية. وهذه المناسبة تفجر كل مكنونات هؤلاء، لابتداع “أعداء” يرفعون أسماءهم وأخطارهم على “فرنسَاهم” الحبيبة المهددة، بالزوال”،وبهيمنة الإسلام، وبداعش، وبخطر “أوروبا” عليها، والعولمة، و… ها هي تطلق نفير “فرنسا أولاً”! وصولاً الى “جان دارك”.
وهل يعني ذلك أن فرنسا كانت “أخيراً” عندهم حتى تتصدّر اليوم واجهة سوبرماريكيتهم السياسية؟. هذه العبارة “المظفرة” أولاً” … اليوم، يعيدنا رنينها، الى ما يشبهه (لفظاً أو جناساً، أو مجازياً) الى “لبنان أولاً”، هذا الشعار الذي رفعته مكونات 14 آذار بعد اغتيال الرئيس الشهيد الحريري، وشهداء ثورة الأرز، للوهلة الأولى، بلبلني هذا “التوارد” الذي تُطنطن نواقيسه في العالم. أتكون 14 آذار بشعارها هذا شبيهة بحملتهم هنا وهناك: ترامبية لوبان، وبعض “الحركات” النازية، واليمين الصهيوني “إسرائيل أولاً”… وصولاً الى “حزب الشاي” (الأميركي)، والأرثوذكسية الإيديولوجية التي استثارها بوتين، والكاثوليكية السياسية التي حرّكها “فيون”، والانعزالية، والكراهية التي بثتها لوبان وأشكال الفوبيات التي تتردد في جوانب كل هؤلاء؟
وقد أثار انتباهي قول أحدهم لي “أنت مع لبنان أولاً” إذاً أنت مع هؤلاء… وكل 14 آذار ملطخة بأمراضهم! عال! وهذا جعلني أعود الى ما حرك هذه الثورة اللبناينة، في 2005.
فرنين الكلام المتشابه خِداع. والتسميات تتغير معانيها وأطوارها من زمن الى زمن: فالليبرالية في الخمسينيات كانت تعني الحقوق المدنية، وحرية الفرد، والاختيار، في مواجهة التوتاليتارية الايديولوجية. أما بعد العولمة فصارت تعني الهمجية الاقتصادية، وقطبية الاستغلال، وتوتاليتارية متجددة أحادية تتحكم بمصير العالم، والشعوب… التعبير واحد والمعاني متناقضة. إن شعار “لبنان أولاً” حمل في ظروفه، وفي تراكماته التاريخية، وواقع البلد ووقائعه، معاني “التحرر” من الاحتلالات والوصايات الإسرائيلية، السورية، والإيرانية… فلبنان آنئذٍ مجرداً من سيادته، واستقلاله، وهوياته، وحرية أبنائه. ومن الطبيعي، ومن أجل إنقاذه من العبودية، رفع شعار لبنان أولاً: المهدد، الذليل، المُصادَر، المُهدرة دماء أبنائه، والممتصة خيراتهم… فكل معركة تحرر لا بد أن تَرفع مثل هذا الشعار: من الثورة الجزائرية، (ضد شعار الجزائر فرنسية) الى الثورة الأميركية ضد الاستعمار الانكليزي، فإلى لبنان في وجه الانتداب الفرنسي.
“أولاً” تعني هنا “التحرير”، والتخلص مما كان يلغي لبنان، ويُلغيه؛ إنها الوحدة الوطنية التي تجلت في الأربعينيات، وفي ثورة الأرز صاحبة التظاهرة المليونية المطالبة بكشف قتلَة الحريري، وبخروج الجيش السوري المحتل. فهل تكون هذه الثورة (السياسية، والثقافية تحمل معاني الانعزالية كما هي الحال في “فرنسا أولاً” أو “أميركا أولاً”؟
الإنعزالية
هنا نعود الى واقع لبنان الذي كان تحت الوصايات العديدة، التي فرضت عليه “عزلة” عربية اختزلها النظام السوري بحضوره، وبات هو يرسم السياسة الخارجية للبنان، بحيث أن الأثر اللبناني كاد يضمحلّ من خلال انقطاعه السياسي عن العالم: فالبديل آل الأسد؛ وإذا كان هناك شيء لبناني ناتئ، فقد كان يمثله المرتزقة والعملاء، للنظام الأسدي: كانوا سوريين بلباس لبناني”. ولهذا كان لبنان، هو أيضاً بطاقة انفتاح على العالم العربي وتأكيد عروبته الحضارية، وهويّته الثقافية والدينية والأثنية المتعددة. في حين أن “فرنسا أولاً” يعني الخروج من الفضاء الأوربي (المعادل العروبي للبنان) وبث الكراهية ضد بعض المكونات الشعبية كالروم، والاسلام، والأفارقة: يحضن لبنان حالياً 500 ألف فلسطيني، ومليوني ونصف المليون سوري نازح من دون أن تشكّل استضافته، أو تتحول احتقاراً وازدراء وحقداً على هؤلاء “الأخوة”. وهذه نقطة مهمة في إبراز الفارق بين ذهنية العنصرية الفرنسية وذهنية الانفتاح اللبناني.
اليسار
فعلى قول “اليمين” وبعض اليسار في فرنسا، إن بضعة آلاف من “الروم”، وكذلك المسلمين الفرنسيين منذ عشرات السنين، يهددون “هويتهم”؛ ووجود فرنسا، وتاريخها، ومجتمعيتها، وربما نابليونها (الطاغية)، وروبسبيرها (السفاح) بل وبشارل ديغولها العظيم، وينال من “بطولة” العميل النازي” الجنرال بيتان بينما في الوقت الذي رفعت فيه 14 آذار شعارها “لبنان أولاً، كان كل العرب”، أولاً، وكل العالم أولاً، وكل الإثنيات الموجودة على أرضها أولاً!فالواقع، أن أهل السياسة والأحزاب في فرنسا هم مسؤولون عن هذا الخراب الاقتصادي، والتراجع الثقافي، وضعف موقع بلادهم في العالم، وإهمال الفئات الفقيرة في الضواحي (ومنهم المسلمون من الجزائر والمغرب)، وانهيار قيم الثورة الفرنسية وإفلاس اليمين واليسار معاً… وكوّن هؤلاء وبدل من أن يرسموا استراتيجيات اصلاحية أو ثورية يتجاوزون بها واقع بلادهم… فها هم يُلقون المسؤولية على سواهم.وكأن بضعة آلاف من الروم هم الذين دمروا اليسار التاريخي، وشوهوا اليمين الجمهوري! أو ان بعض العمليات الارهابية لداعش أو سواه، هي التي حطّمت عز فرنسا، وهويتها وجمهوريتها الخامسة أو السادسة أو السابعة. بل وكأن “فرنسا أولاً”، لا تعني خططاً وبرامج انتخابية فاعلة، بل اختيار أسهل الطرق وأكثرها شعبوية، بل وتعيين أعداء وهميين… وهذه هي قمة التملص من المسؤولية وإبقاؤها على الغير…
ترامب
أما ترامب، فكان النجم الهوليودي الساطع (كل نجوم هوليود ضده)، قد استعاد ما سبقه من نزاعات فوضوية، ومشاعر كراهية، ودوافع عنصرية، وحملها في شعار “أميركا أولاً”… الذي يعني تكرار ما شهدته بريطانيا في خروجها من البركيست… وكذلك عباقرة السياسة الفرنسية: التحريض على المسلمين، والأقليات، ورفع جدار على حدود أميركا مع المكسيك، واحتقار المرأة، وتفسيخ الحلف الأطلسي، ومخالفة الدستور بمنع ستة شعوب عربية – إسلامية من دخول أميركا… واسترجاع قوة هذه الأخيرة وعظمَتها بمعاداة الجميع ما عدا بوتين، من دون أن إغفال مهاجمة كل الاعلام الأميركي وغير الأميركي، وكذلك المثقفين وصولاً ا لى هوليوود نفسها، واعدة إسرائيل بنقل سفارتها الى القدس.كل هذا لم يرد لا من بعيد ولا من قريب في “لبنان أولاً” الذي رفعته 14 آذار. فالعدوانية المفرطة في منظور ترامب، تقابلها استعادة الدولة، ودستورها، ووجودها، وحرية الصحافة، وتحرير الشوارع من سطوة الوصاية السورية، وإجراء انتخابات ديمقراطية… والانفتاح الحي على العرب وعلى كل العالم. وتعزيز عمل المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري. أكثر: “لبنان أولاً” واجه من يلتقون ذهنية لوبان وترامب، وفيون، وهي الذهنية الكانتونية التي فرضها حزب الله وإيران على لبنان، ونشر ثقافة الموت والكراهية الدينية والمذهبية، ورد محاولات تدمير الدولة، واجتثاث وجود لبنان من خلال محاولات ضمه (وإن سياسيا) لإيران، وإدانة تدخل هذه الأخيرة في الحرب السورية لدعم الطاغية وارتكاب ممارسات ومجازر عنصرية – مذهبية بحق المسلمين – العرب السُّنة، وتهجيرهم، وتغيير الديمغرافية السكانية في سوريا والعراق… فـ14 آذار لم يؤيد الثورة السورية لأنها من صُنع شعب عربي فقط، بل لأنها اعتمدت القيم الاستقلالية والسيادية والتحريرية في كل بلد من بلدان العالم، وخصوصاً فلسطين المحتلة من مجانين التطرف والعنصرية والمجازر التي يمثلها نتنياهو والمستوطنون… ففرنسا أولاً أو أميركا أولاً تعنينان الذهنية”الصهيونية أولاً”بكل موبقاتها.
الأخطار
نقول هذا ولبنان ما زال في دائرة الأخطار “السورية” (بفلول نظامها)، والإيرانية والاسرائيلية. يواجه بالديمقراطية، وبالوسائل السلمية أكبر ترسانة حربية عند حزب الله. ولا ينفك مسؤولون في إيران يصرّحون بأن “لبنان ولاية من ولاياتهم”. وهنا عليك أن تتعايش مع السلاح الذي يهددك، ومع المخططات السياسية التي تحاصر البلد، من “دستوره” الى دولته، الى كيانية كانتونية لحزب المذهبية، الى التهديد في كل مناسبة بإشعال حرب أهلية، ناهيك أن كل رموز 14 آذار وبعض إعلامييها ما زالوا مرصودين، فرائس لرصاص الاغتيال. لقاء كل هذا، ما زال معظم اللبنانيين يتّبعون “الاعتدال”، ومج “التطرف”، والتصلب، أملاً في أن تنتصر قيم الديمقراطية. وعندما اغتيل الشهيد الكبير الرئيس رفيق الحريري، وبعض قادة ثورة الأرز، لم يكن الرد شبيهاً بوحشية القتلة، ولا بعنصريتهم، ولا بانتقامهم: كان الرد ديموقراطياً، سلمياً، احتل فيه مليون ونصف مليون لبنان الساحات والشوارع لتتشكل بذلك ثورة الأرز بشعارها العالي “لبنان أولاً”…
ذلك لأن المعتدين كانوا، من بين ما كانوا يرمون عليه، استدراج اللبنانيين الى حرب أهلية، أو الى بث الكراهية، والعنف، والتطرف والغريزية واللاعقلانية، ردوا بالتظاهرات، وبالقانون عندما رفعوا قضية اغتيال الحريري الى محكمة دولية، أي الى العدالة والقانون.ويكفي أن نشير الى أن وجود منظمات إرهابية كداعش، والقاعدة، وسواهما، لم تجد لها موطناً، أو تجذراً، أو بؤراً متأصلة في لبنان. وهذا يعود الى سياسة الاعتدال، والوطنية، والتعددية والاختيارات الديمقراطية عند حملة شعار “لبنان أولاً” لا سيما القاعدة الشعبية التي أسّسها رفيق الحريري، من العلمانيين، الى السُّنة، وسواهم.
فكان لبنان المتعدد الذي كان وراء هذا الشعار، والسلم الأهلي، والانفتاح، هو الذي سدّ الطريق أمام انتشار التطرف الإسلامي، والسلفيات، والحركات المذهبية الإرهابية.
مجاز التوتاليتارية
واللافت أن شعارات فرنسا، وأميركا، وبريطانيا أولاً، وكذلك المجر التي “يجسدها أحزابها، وشخصيات نقابية وسياسية تحمل في مضامينها العودة الى توتاليتارية ما. فالعنصرية ليست سوى مظهر من هذه الشمولية. و”التطهير” العرقي” و”رفع جدار المكسيك – أميركا، وتعيين المسلمين (مليار مسلم) أعداء تجب محاربتهم، تذكرنا بالنازية، عندما وضعت سلّم قِيَم للشعوب، والأمم، قيم “الانتقائية”، والمفاضلات، بغية تطهيرها، أو القضاء عليها. وكذلك فعلت الشيوعية بقيادة ستالين: جعلت الدين “أفيوناً”، فدمّرت كنائس، ومكتبات، ومناطق، لتصفية الأمة من هذه “الأوبئة”… انها بذور الشمولية التي تحملها إيران. على حربة “عنصرية” ضد العرب وضد السنة: “العرب شعب تافه جاهل، من الحفاة وأكلَة الجراد” (كما صرح أحد المسؤولين الإيرانيين)!و14 آذار، تحديداً (بالجملة أثناء ولادتها، وبالمفرق اليوم) تقاوم احتمالات هذه التوتاليتارية، برفض “تصفية” فئة على حساب أخرى. (قانون الانتخابات)، لأنها ترفع “شعار التعددية” أي تناوب السلطة، واحترام وجود الآخر، وموقعه، وخصوصيته. أي انها تقاوم النزعات العرقية “شعب الله المختار”، أو “أميركا العظمى”، أو فرنسا الاستثنائية، أي أخيراً تفضيل “الأبيض” على “الأسود”، بالمعنى السياسي والانثروبولوجي… أي تعطيل التفاعل التاريخي – الاجتماعي، الذي يشارك فيه كل المكونات، فالعنصرية هي اللاتاريخ. والتوتاليتارية هي “التاريخ الأحادي”، والهيمنة هي استعمار التاريخ والشعوب.فهل وجدنا في ممارسات 14 آذار (مع كل من تحمله من نقد لمساراتها) ما يوحي هذه الأمراض: الشمولية+العرقية، أو دولة الله المختارة…انها معركة معظم الشعب اللبناني للحفاظ، وتحت شعار “لبنان أولاً” من أجل ثقافة الحياة، والابداع، والحرية، والسيادة والانفتاح!
اخترنا لكم



