كان من المهم والضروري ان تولد الحكومة برئاسة سعد الحريري حتى لا تضعف انطلاقة العهد ولا تترسّخ الشكوك والمخاوف بأن الأزمة السياسية التي انتجت على امتداد عامين فراغاً رئاسياً مستمرة بأشكال وطرق مختلفة ومنها الفراغ الحكومي.
بعد انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، إكتملت ملفات السلطة التنفيذية ولم يبق الا تجديد السلطة التشريعية واعادة الحيوية اليها ورد اعتبارها عن طريق انتخابات نيابية وعلى اساس قانون جديد يراعي التمثيل الشعبي الصحيح والتوازن الوطني الدقيق. ولذلك فإن تشكيل الحكومة كان مهماً ان يحصل وان لا يتأخر، لإنقاذ الإنتخابات التي يبدأ العدّ العكسي لها مع بداية العام الجديد.
فهذه حكومة محددة في مهمتها ومدتها الزمنية وهي حكومة انتقالية مؤقتة أُنيط بها امر تنظيم الإنتخابات وتوفير ظروف جيدة كي تكون انتخابات حرة ديموقراطية متوازنة وصحيحة التمثيل، وإعلانها عزّز التفاؤل والثقة بإجراء هذه الإنتخابات في موعدها واستمرار هذا المسار الإيجابي في العهد الجديد.
ولكن رغم الإرتياح الى تشكيل الحكومة ومبدأ ان يكون هناك حكومة تجمع وتقرّر وتنتج، بدل حكومة تصريف اعمال تجمّد الوضع شهوراً اضافية، الا ان الإرتياح الى التشكيلة الحكومية يعتريه الكثير من الشوائب وعلامات عدم الرضى، لأن الحكومة يعتريها العديد من الثغرات والنواقص.
وبإختصار، هذه ليست الحكومة التي يتمناها اللبنانيون ويتطلعون اليها، وبالتأكيد ليست الحكومة المثالية التي يريدون، وعلى الأقل ليست الحكومة التي تتناسب مع العهد الجديد وحجم الآمال التي عُلقت عليه والطموحات التي بُنيت على اساسه.
من الناحية السياسية اولاً، اذا كانت هذه حكومة وحدة وطنية كان يجب ان لا تستثني احداً ولا تقصي احداً، ولا يتم احراج حزب الكتائب لإخراجه وهو حزب له كتلة وازنة في البرلمان.
وكذلك حصلت اخطاء كثيرة لجهة تركيبة الحكومة نتيجة اهمال واستعجال وهذه بعض النماذج:
- لم يتم وضع الوزير المناسب في الوزارة المناسبة، وهنا لا نتكلم عن كفاءات الوزراء واهليتهم الشخصية والذي لنا من بينهم اصدقاء كثر وانما نتكلم عن حسن استثمار كفاءتهم وتوظيفها في المكان المناسب للوصول الى افضل النتائج.
فما حصل مع ميشال فرعون و"دحشه" في وزارة دولة لشؤون التخطيط بعدما نجح في وزارة السياحة بشكل لافت وكان من افضل وزراء السياحة على الاطلاق هو نموذج صادم عن عدم مكافأة الناجح في هذه الدولة، فنجد الطبيب في وزارة الثقافة والإقتصادي في وزارة الصحة والرجل في وزارة شؤون المرأة، وهكذا "خود ايدك ولحقني" ...
- عدم عودة بعض الوزراء الذين نجحوا في الحكومة السابقة في وزاراتهم وكانوا عنوان ثقة واحترام عند اللبنانيين الى الحكومة الحالية، وعلى سبيل المثال لا الحصر الياس بو صعب الذي اجمع اللبنانيون انه الرجل المناسب في المكان المناسب والذي اطلق عليه اسم "حبيب الطلاب واهلهم"، والذي تميز في ادائه الراقي والمميز خلال توليه وزارة التربية الوطنية، وكان عنوانآ للشفافية والاخلاق والوطنية وكان مثالآ يجب تعميمه على كثير من الوزارات ومؤسسات الدولة في مجال عدم الهدر والفساد في وزارته وفي جميع المؤسسات التابعة لوزارته.
- استحداث رزمة من وزارات الدولة لإرضاء السياسيين من دون ان يكون هناك حاجة لوزارات كهذه ومن دون ان يكون لهذه الوزارات وجود ودور واطار قانوني، وقد اعادت صورة هذه الحكومة الثلاثينية الفضفاضة الى الأذهان صورة الحكومات في عهد الوصاية قبل العام 2005.
وفي هذا المجال لا يسعنا الا ان نقرّ بموهبة القيمين على الوضع في اختراع وزارات فارغة من اي مضمون و"لزوم ما لا يلزم".
- عدم تمثيل المرأة في الحكومة كما يجب وبما يليق بدورها وطاقاتها في المجتمع، فالمرأة اللبنانية تستحق اكثر من مقعد وزاري واحد بعدما اثبتت في كل المجالات التي تخوضها انها قادرة على الإضطلاع بأي مسؤولية وانها متفوقة في ادائها. وما حصل ان هذه الحكومة سجّلت اجحافاً وغبناً بحق المرأة وانتقاصاً من قيمتها ومكانتها.
واذ نحيي هنا مبادرة الرئيس نبيه بري الى تسمية امرأة في الحكومة هي الدكتورة عناية عزالدين، كنا نتمنى ايضاً لو ان الأحزاب خصوصاً منها المسيحية فعلت الشيء نفسه وهي التي نسمعها تفاخر بدور المرأة وتطالب في الاعلام على تعزيز حضورها ودورها وإعطائها مراكز قيادية.
- الحجم الكبير للحكومة الموسعة والفضفاضة وبما لا يتناسب مع وظيفتها المحددة وعمرها القصير، الا اذا كان هناك من نوايا مبيتة تجاه هذه الإنتخابات النيابية وهناك من يعمل لتأجيلها واطالت عمر هذه الحكومة.
هذه المرحلة الإنتقالية التي تمتد لأشهر معدودة تكفيها حكومة مصغّرة، وحكومة تكنوقراط واختصاصيين لإدارة الإنتخابات وتحقيق انفراجات في ملفات وقضايا معيشية ملحّة. واما الحكومة السياسية الموسعة فإن مكانها وزمانها الطبيعي بعد الإنتخابات النيابية وتكون مفصّلة على قياس نتائج الإنتخابات والبرلمان الجديد.
اما القول بأن لبنان لم يعد يحتمل ويصح فيه الا حكومات الوحدة الوطنية التي يجب ان تتسع للجميع فإن في ذلك انتقاص من النظام الديموقراطي الذي يجب ان يكون فيه موالاة ومعارضة وانتقاص ايضاً من دور لمجلس النواب الذي لا يعود بإمكانه مراقبة ومحاسبة الحكومة طالما ان البرلمان اصبح هو الحكومة وحصل تداخل واندماج بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بدلاً من اعتماد قاعدة الفصل بين السلطات والتعاون فيما بينها.
هذه ملاحظات ومآخذ نسجلها على الحكومة الجديدة من دون الطعن المسبق بأهليتها وكفاءتها ومن دون حجب الثقة عنها لأننا نرى النصف الملآن من الكوب ولا نرى فقط النصف الفارغ الذي نأمل ان لا يظل فارغاً، ونأمل ان تكون "حكومة ما بعد الإنتخابات" على قدر التطلعات والآمال المعقودة على العهد وان تكون خالية من الشوائب والثغرات.
في الختام نقول ما "يشفع" في حكومة الـ 30 وزيراً والقيّمين على تشكيلها انها ليست حكومة العهد الأولى وانما آخر حكومة منبثقة عن المجلس النيابي الحالي المنتخب على اساس قانون ال 60 هذا ما نأمله ونتمناه رأفة بهذا الشعب المسكين.
اخترنا لكم



