تشهد الولايات المتحدة الأميركية غداً الثلاثاء انتخابات رئاسية هي الأكثر غرابة وإثارة للجدل في تاريخها، بعدما هيمنت على مناظراتها الرئاسية قضايا شخصية وتداخلت فيها فضائح وروائح الفساد والجنس.
الإنتخابات الاميركية الاخيرة تميّزت بظاهرة المرشح الرئاسي دونالد ترامب الذي اقتحم السباق الرئاسي والمشهد السياسي الأميركي فارضاً نفسه على الحزب الجمهوري كمرشح للرئاسة من خارج المؤسسة السياسية والحزبية ومخالفاً كل التوقعات في ان يكون مرشحاً قادراً على المنافسة وانتزاع ورقة الحزب الجمهوري واظهار قدرة وامكانية الوصول الى البيت الأبيض.
ترامب خلق سابقة في الولايات المتحدة وانتخاباتها الرئاسية وامتلك خطاباً سياسياً وصلت فيه الصراحة الى حدّ صادم وفجّ، ونجح في مخاطبة الناخب الأميركي والعزف على وتر المسائل التي تقلقه وتخيفه.
"ظاهرة" دونالد ترامب عكست فعليآ التحول الحاصل في المزاج الشعبي الأميركي، حيث سُجّل الجنوح الواضح في اتجاه "العنصرية" لأسباب كثيرة اهمها:
ان الأميركيون قلقون من ازدياد خطر الإرهاب داخل اميركا ومن فقدان وظائفهم لمصلحة المهاجرين، فجاء ترامب ليعلن عبر خطابه الانتخابي انه سيستعيد مكانة اميركا وسيضرب الإرهاب بقوة وسيفرض قيوداً على دخول المسلمين الى اميركا وسيبني جداراً لصدّ المهاجرين على الحدود الجنوبية.
وهذان التناغم والتماهي مع هذا الخطاب "العنصري" يؤكدان مدى الخوف والقلق عند الاميركيين من "التطرف والارهاب والهجرة" وجعلهم يتفاعلون مع "ظاهرة" ترامب الصادمة عادة في المجتمعات الغربية والتي تحترم حقوق الانسان وحرية المعتقد والدين.
احتمال نجاح دونالد ترامب في الرئاسة الأميركية وضع كثيرين من المسلمين في اميركا في حالة من القلق والتوتر العميقين بعدما تغلغلت "عنصرية" ترامب اذا جاز التعبير بين انصاره ومؤيديه، وهذا ما جعلهم يتكتلون حول المرشحة هيلاري كلينتون بعدما ذهب ترامب بعيداً في مواقفه المتطرفة.
ما يحصل في الولايات المتحدة وما كشفته الإنتخابات الرئاسية من تنامي نزعة "العنصرية"، نشهد مثيلاً له في اوروبا وعلى نطاق اوسع وبشكل اكثر وضوحاً وحيث ان صعود موجة اليمين المتطرف بدأ يُترجم عملياً في تحولات الرأي العام وتغييرات الطبقة السياسية وتراجع احزاب تقليدية وتاريخية لمصلحة احزاب متطرفة بعضها نشأ حديثاً مثل "حزب البديل" من اجل المانيا وبعضها الآخر كان موجوداً واستفاد من التطرّف الحاصل ليوسّع قاعدته الشعبية ويفرض نفسه رقماً صعباً في المعادلة، كما الحال ايضآ مع الجبهة الوطنية التي تتزعمها مارين لوبن في فرنسا.
الجبهة الوطنية في فرنسا باتت تتصدّر الإستطلاعات الشعبية منذ سنة بعد الهجمات الإرهابية في باريس ونيس، وتحولت مارين لوبين منافسة جدية للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وكذلك للمرشح الحالي والرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وها هي مارين لوبين تضمن منذ الأن الفوز في الدورة الأولى وتملك حظاً كبيرآ في الوصول الى قصر الإليزيه في الدورة الثانية، وهذا ما حمل الحزب الإشتراكي واليمين الوسط على التنسيق بينهما من اجل قطع الطريق عليها للوصول الى الاليزيه.
اجواء التطرف تتنامى في كل اوروبا واليمين المتطرف يصعد الى الحكم في اكثر من دولة بخطى واثقة وثابتة، وهذا ما نشهده في المانيا والنمسا وفنلندا والسويد وهولندا والمجر حيث يصبح التحول الى اليمين المتطرف واقعاً وحيث تتصدّر قضايا الهجرة والإرهاب والأمن الأجندات والأولويات في اي برنامج رئاسي.
الأوروبيون يعيشون اجواء ذعر ويبحثون عن سبل حماية امنهم القومي في مواجهة اسوأ ازمة تواجهها اوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تهدّد بتصدّع منظومة القيم الأوروبية وبتفكّك الإتحاد الأوروبي لأسباب سياسية وامنية واقتصادية.
في الواقع، دخلت اوروبا في النفق والمأزق وفي اخطر الأوضاع والأزمات وترزح تحت هاجسين وخطرين: هاجس وخطر اللجوء الآتي من الشرق الأوسط والهجرة غير الشرعية، وهاجس خطر الإرهاب الذي صار في داخل اوروبا ويمتلك الخلايا والبنى التحتية مخترقاً النظام الأمني الأوروبي غير المهيأ لخوض هذا النوع من الحروب ضد إرهاب انتحاري يصعب كشفه ووقفه.
اوروبا التي كانت والتي نعرفها تتغير، القلق على وجوه مواطنيها، الأمن فيها غير مضمون، والنسيج الإجتماعي الثقافي مهدد، لغة التطرف تعلو وتسود، ليس فقط التطرف الإسلامي عند افراد جذبتهم دعاية "داعش" وعند جماعات مهمّشة ومحبطة اجتماعياً، وانما ايضاً من خلال "العنصرية" الذي تظهر عند مواطنين اوروبيين ينتمون الى اليمين المتطرف ساعدتها الموجة الإرهابية المرعبة والمجرمة لتأجج العداء للمسلمين والعرب المهاجرين واللاجئين والمقيمين، ولنعي امكانية التعايش مع جماعات وبيئات غير قادرة على الإندماج في المجتمعات الأوروبية والغربية.
الجاليات العربية والإسلامية المعتدلة هي ضحايا لهذا الوضع الجديد وتدفع ثمنه من خلال طغيان مشاعر العنصرية والكراهية ومع الخلط الحاصل بين الإسلام والإرهاب.
قبل فترة نشر مجلس النواب الفرنسي تقريراً تداوله المتخصصون حول فرنسا والإرهاب ومما جاء فيه ان تعاظم المخاطر الإرهابية الإسلامية سيؤدي الى صعود كبير لليمين الفرنسي المتطرف ليس فقط في فرنسا، بل في كل اوروبا والغرب.
وسيقود هذا الأمر خلال فترة ليست طويلة الى حصول حالة من الإقتراب الى الاحتكاك العسكري بين المتطرفين الفرنسيين والمسلمين في فرنسا، ويلفت التقرير النظر الى ان القاعدة الإجتماعية لليمين في فرنسا تمتاز بأمرين يشجعانها على الصدام مع المسلمين المقيمين والمجنسين في فرنسا، الأول انها عقائدياً تنحاز الى "كاثوليكيتها" المتشددة اكثر مما هي منحازة الى الأمة الفرنسية وقوميتها، والتالي انها "معسكرة" لأن هناك نسبة كبيرة من محازبي اليمين الفرنسي المتطرف هم ضباط وجنود سابقون او حاليون في الجيش الفرنسي ولديهم خبرة عسكرية كبيرة.
ويخلص هذا التقرير الى استنتاج مفاده ان الحل يكمن في ان تبادر الدولة الفرنسية ازاء هذا الخطر الى تنفيذ استراتيجية "البطش العلماني الديموقراطي" الموجه ضد اليمين المتطرف والإسلام المتطرف على حد سواء.
لن يتأخر الوقت حتى يبدأ التغيير السياسي في اميريكا واوروبا ويظهر التحول الشعبي بإتجاه اليمين المتطرف، والإنتخابات الاميركية على الابواب والفرنسية ايضآ و"ظاهرة ترامب" الأميركية ستتكرر في نسختها الفرنسية مع رئيسة الجبهة الوطنية "مارين لوبن" .
اخترنا لكم



