ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة والعشرون من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
في أواخر شهر آب، ونتيجة للضغط المتواصل من وحدات الفوج على مراكز المسلّحين، تمّ وصل بقعة عمل الفوج ببقعة عمل فوج مغاوير البحر الذي يهاجم من الجهة الجنوبية للمخيّم، وبالتالي إقفال المنفذ الوحيد للمسلّحين على البحر، الذي كان مضروباً بالنار ودوريات القوات البحرية تمنع الخروج منه، وبالرغم من ذلك ( قبل إقفاله من قبل الفوج ) تمكّن عنصران من الإرهابيين من إستخدامه والخروج من المخيّم سباحة، وقد أُلقي القبض عليهما على شاطىء "العبدة " .
فبعد تلك العملية، وكونها تمّت بسرعة قياسية ودون خسائر في الأرواح، كدت أطيرُ فرحاً: إحكام الحصار على المسلّحين، ودون إصابات بليغة أو إستشهاد أحد من العسكريين، يعني إقتراب سقوطهم. لم تكتمل فرحة النصر المرحلي، جاءني العقيد الطبيب خليل الحلو قائلاً : "ميشال مفلح" .. دون إضافة اي كلمة. (النقيب ميشال مفلح من فوج مغاوير البحر ) . قلت: " ما به ؟ " ، أجاب :" إصابة في الرأس وحالته خطيرة جدّاً" .أطرقت لبرهةٍ وأحسست بفداحة الخسارة، ثم بعد دقائق، وصل نبأ إستشهاد النقيب ميشال مفلح ..
كنت احبّ هذا الضابط، مع أننا لم نخدم سويّةُ، بل إلتقيت به مرّات عدّة في مناسبات مختلفة، صيته الحسن بين رفاقه، وصورة وجهه "القريب من القلب" لا تبارح مخيّلتي . ما أصعب حياة الميدان، خصوصاً بعد فقدان الرجال الذين نحبّ .
في خلال هذه العملية ، أي وصل بقعة الفوج جغرافياً بقعة عمل فوج مغاوير البحر، سقط ستة جرحى من الفوج . الجروح الطفيفة لم نكن نحسبها ، لأن المصابين سرعان ما كانوا يعالجون ويعودون إلى وحداتهم، ومن هذه الإصابات الرقيب عصام مسلماني الذي اصيب في ساقه إصابة طفيفة ، لكن بعد عدة ايام إتصل بي ضابط الإدارة في الفوج :
"إستشهد عصام مسلماني ..." صعقت لهذا الخبر المشؤوم، فسألته غير مصدّق :
"كيف هالحكي، إصابتو طفيفي وبأجرو وأنا شفتو، ما بيصير .."
طلبت إلى العقيد الحلو :
"خليل بشرفك بدي اعرف كيف مات العسكري وإصابتو طفيفي وأنا متأكد منها، بدي تتألف لجني طبيي ت اعرف شو سبب الوفاة .."
"خليك بشغلك أنا بهتم وبخبرك شو بيصير معي .. "
عرفت لاحقاً أن العريف مسلماني لم يوضع حتى في غرفة العناية الفائقة بل أجريت له عملية جراحية في ساقه، ووضع في غرفة عادة لأن إصابته لم تكن خطرة ، لكن تقارير اللجنة الطبية اثبتت أن "نسرة" صغيرة جداً من عظم الساق المصابة دخلت في مجرى الدم وسبّبت له إنسداد الشريان الرئيسي وبالتالي وفاته، وأن حالة كهذه نسبتها واحد على مليون مصاب ..... يا لسوء حظه .
إحدى الليالي الحارة من شهر آب ، وصل مدير العمليات العميد الركن فرنسوا الحاج .
-"المسلحين عم يطلبو أخلاء عائلاتهم، شو رايك ؟" .
- " الإخلاء الإنساني للعائلات والمدنيين لا مانع لدينا سيدي، لكن المسلّحين يجب ألا يخرجوا إلا موقوفين أو قتلى ... " . عرفت أنه إستمزج رأي قادة الوحدات المهاجمة .
حُدّد يوم الإخلاء الذي سيتمّ في بقعة عمل الفوج. شدّدت على ضباط الفوج وجوب الإلتزام الكامل بتنفيذ العملية، فنحن عسكريون ننفّذ أوامر قيادتنا، ثم أنه من الناحية الإنسانية لا حقّ لنا عند النساء والأطفال وغير المقاتلين، ولو كانوا من عائلات الإرهابيين، فهم لا ذنب لهم. وأوكلت إلى الضبّاط مراقبة ردّات فعل العسكريين، خصوصاً المتحمّسين منهم، والتواجد الدائم قربهم لمنع اي ردّة فعل عنيفة من قبلهم تُفشل عملية الإخلاء .
رأينا، وعلى بعد أمتار معدودة، مسلّحي "فتح الإسلام" يساعدون زوجاتهم وأطفالهم على المرور بين الركام، وكنّا منتبهين إلى أقصى الحدود خوفاً من ردود فعل غرائزية..
في الحقيقة، لم أكن أتوقّع من العسكريين الذين يقاتلون منذ أكثر من ثلاثة أشهر، في ظروف خطرة وصعبة للغاية، والذين خسروا أمامهم رفاق لهم، أن يعمدوا إلى حمل أولاد الإرهابيين وإيصالهم إلى سيارات الصليب الأحمر بالرغم من الشتائم والألفاظ التي كانت تكيلها نساء الإرهابيين لهم :
"إيدك عنّو ...بتنجّسو" قالتها أم أحد الأطفال للجندي الذي يحمل إبنها، وتمنّت إمرأة أخرى :
" نشالله البحر بيقوم وبيغرّقكن كلكن سوا " .
بالرغم من "التمنيات الحارّة" لنا ، هرع العقيد الطبيب خليل الحلو إلى حمل أحد الأطفال المصابين مجرياً له الإسعافات الأولية، ونقله بسيارة الصليب الأحمر إلى المستشفى حيث اشرف على علاجه، وكانت والدته تدعو له "بكسر اليد " ..
يا ألله، كيف تنتصر الإنسانية على الكراهية، وكيف تطغى المناقبية العسكرية على الغرائز والأحقاد .
يا ألله ....كم أنا فخور بهؤلاء الجنود الشجعان، الكبار بإنسانيتهم، الملتزمين بروح الجندية، كيف "عضّوا" على الجراح وتسامت إنسانيتهم فوق كل إعتبار.
تمّت عملية إخلاء 21 إمرأة و 23 طفل، يشكّلون عائلات الإرهابيين، دون اية حادثة، وسُجّل للجيش إحترامه الكامل للإتفاقات والمعاهدات الدولية ولحقوق الإنسان، في الوقت الذي يتمّ "خرق" هذه الإتفاقات والحقوق من قبل أكبر واقوى الجيوش في العالم، ومن دول تدّعي إحترام حقوق الإنسان و "تُنظّر" في مجال الإلتزام بالأعراف والمواثيق الدولية .
هذا هو الجيش الذي أعتزّ بإنتمائي له، هؤلاء هم العسكريون الذين أحببتهم حتى العظم، ولا أزال، بالرغم من إحالتي على التقاعد، لا زلت أعتبرهم أبناء لي وأخوة، ولنا سوية شرف الإنتماء لهذه البزّة المرقّطة، وشرف القتال تحت رايتها، وفخر الإلتزام بالإتفاقات الدولية والمواثيق والأعراف ، بالرغم من الجراح التي اصابتنا في الصميم ...
(في الحلقة المقبلة الجيش ينتصر على الإرهاب في نهر البارد)
اخترنا لكم



